خطوات لعبور الازمة والوصول لبر الامان
الكاتب : حميد الكفائي
الأزمة العميقة والمعقدة التي يعانيها العراق منذ ستة أشهر تقريبا ليست عصية على الحل لو وجدت الإرداة والنية الصادقة لحلها لدى القوى السياسية العراقية المتنفذة، لكن سبب استمرارها وتفاقمها هو عدم وجود الرغبة لدى المتنفذين لحلها، فهؤلاء لا يتمتعون بالذكاء ولا الخبرة ولا الإرادة الوطنية المطلوبة لإيجاد حلول حقيقية للأزمة، إضافة إلى تبعيتهم لدولة أخرى مصممة على إضعاف العراق والتحكم به.
أسباب الأزمة أصبحت واضحة للجميع، وهي رغم كثرتها، إلا أننا يمكن أن نوجزها بانفلات الجماعات المسلحة وسيطرتها على مؤسسات الدولة، والفساد المستشري في كل نواحي الحياة العراقية، والتدخلات الأجنبية في الشؤون السياسية العراقية التي جعلت المسلحين يتحكمون بحياة الناس، ويفعلون ما يشاؤون دون حساب أو عقاب. والأخطر من هذا كله أن هذه الجماعات المسلحة أصبحت تشن حروبا على أهداف أجنبية دون أي اكتراث لما يسمى بـ(الحكومة العراقية) التي أصبحت آخر من يعلم بما يجري في البلد الذي يفترض بأنها تحكمه، ودون اكتراث للأزمة الصحية الخطيرة التي يواجهها العالم أجمع بسبب انتشار فيروس كورونا. من الواضح أن هذه الجماعات لا تشعر بأي مسؤولية ولا تكترث للمصلحة العامة لذلك يجب مواجهتها بقوة، وأي تأجيل للمواجهة سوف يساعدها على النمو والتمدد.
يمكن أن نوجز الحل بعشر خطوات عملية تتخذها الحكومة المقبلة لوضع البلد على السكة الصحيحة نحو بناء دولة عصرية قوية، لكنها لن تستطيع أن تشرع بها إن لم تتعاون معها القوى السياسية العراقية الممثلة في البرلمان. والأهم من هذا، هو مساندة المرجعية الدينية الشيعية العلنية لخطوات الإصلاح لأنها تتمتع بسلطة معنوية واسعة، وبالتحديد على القوى المهيمنة على السلطة حاليا، التي ما كانت لتهيمن لولا ادعاؤها الالتزام بمبادئ الدين وأنها تسير على نهج المرجعية الدينية وتتبع ارشاداتها. ومن هنا، فهذه القوى لا تستطيع أن تخالف مدعياتِها علنا إن أعلنت المرجعية بوضوح وقوفَها مع الخطوات الإصلاحية الضرورية لإعادة العراق إلى حالة الدولة الفاعلة.
الخطوة الأولى التي يجب أن يتخذها الرئيس هي اختيار شخصية مستقلة تتمتع بالخبرة والحكمة والاعتدال وغير مشتركة بأي من الحكومات السابقة في أي منصب رفيع، تنفيذيا كان أم تشريعيا، سياسيا أم أمنيا أم عسكريا، ولم تكن قد عملت خلال العقود الثلاثة المنصرمة في أي من الأحزاب السابقة أو اللاحقة، كي تكون مقبولة للشعب ومعظم القوى السياسية لتشكيل حكومة من الخبراء المستقلين فعلا، تحظى بثقة الشعب والمرجعية الدينية، كي يقتنع غالبية النواب بالتصويت لها، حتى وإن خالفوا بذلك تعليمات قادتهم.
بعض المعلومات المسربة أشارت إلى أن الرئيس ينظر حاليا في تكليف احد موظفيه الحاليين أو السابقين بتشكيل الحكومة المقبلة. إن صحت هذه المعلومات، فإن هذه الأزمة، ربما الأسوأ في تأريخ العراق، سوف تتفاقم. على الرئيس أن يفكر مليا قبل الإقدام على الخطوة المقبلة، فالمسألة ليست بالبساطة التي يتوقعها هو، أو قادة الكتل السياسية الذين يبحثون عن شخصيات هزيلة يمكنهم التحكم بها دون إدراك لحجم الكارثة التي يمر بها البلد. العراق في خطر ويحتاج إلى شخصيات وطنية تتمتع بقدرات خلاقة كي يخرِج من الأزمة.
الخطوة الثانية هي أن تتخذ الحكومة الجديدة قرارا واضحا وحاسما بحل الجماعات المسلحة كافة وتجريدها من السلاح ودمج منتسبيها المنضبطين في القوى الأمنية شريطة أن تتنحى قياداتها الحالية كليا ويُحَقق معها بخصوص جرائم القتل والخطف التي ارتُكِبت خلال السنوات الماضية. وتتولى إدارة هذه العملية لجنة عسكرية مهنية غير سياسية مرتبطة برئيس الوزراء، ويجب ألا يستغرق عملها فترة أطول من أمد الحكومة المؤقتة التي يجب ألا تتجاوز موعد الانتخابات المقبلة في 2022. وتحتاج هذه الخطوة تحديدا إلى موقف واضح ومحدد من المرجعية الدينية الشيعية، متمثلة بالسيد علي السيستاني، يؤكد فيه أن فتوى (الجهاد) التي أصدرها في حزيران 2014 كانت لحث العراقيين على التطوع للدفاع عن بلدهم ولم تكن لشرعنة قيام جماعات مسلحة تتلقى أوامرها من قادة دولة أخرى، وأن لا تفويضَ شرعيا لأي جماعة مسلحة في العمل تحت أي ذريعة، ومن حق الحكومة تنظيم قوى الأمن والجيش حسب ما تراه في مصلحة البلد.
الخطوة الثالثة: تشريع قانون لتشكيل هيئة قضائية مستقلة للتحقيق في الجرائم التي ارتكبتها الجماعات المسلحة وقوى الامن والجيش بحق المتظاهرين والمعارضين والمنتقدين للنظام وغيرهم، وكذلك في جرائم الخطف والاغتيال المنظمة التي حصلت منذ عام 2003 حتى اليوم، وتكون قراراتها ملزِمة للحكومات المقبلة التي عليها أن تنفذها دون تأخير. هذا الإجراء ضروري لطمأنة الناس والمحتجين بأن مرتكبي الجرائم لن يفلتوا من العقاب.
الخطوة الرابعة: تكليف لجنة من الخبراء الدستوريين العراقيين المستقلين لتعديل الدستور وإزالة المواد الخلافية والمتناقضة التي تثير الفرقة الدينية أو الطائفية أو القومية بين المواطنين وتعرقل الحياة السياسية والثقافية والتطور الطبيعي للمجتمع، وأن يكون هناك نص يمنع تأسيس الأحزاب على أسس دينية أو طائفية أو قومية أو مناطقية.
الخطوة الخامسة: تعديل قانون الأحزاب ليأخذ بنظر الاعتبار المادة الدستورية أعلاه ويفرض على الأحزاب أن يكون لديها توجهات اقتصادية محددة وبرنامج سياسي مبني على دراسات تعدها معاهد أبحاث متخصصة ومستقلة، وأن تُمنع منعا باتا من إطلاق الوعود غير القابلة للتحقيق او غير المبنية على أسس سليمة أو تلك التي تهدف إلى تضليل الناخبين.
الخطوة السادسة: تعديل قانون الانتخابات بحيث يكون عادلا ومنصفا للأحزاب جميعا، الصغيرة منها والكبيرة، وألا يسمح للأحزاب التي تفتقر إلى النظام الداخلي الديمقراطي، المطبق فعليا بشفافية وبإشراف قضائي، من المشاركة في الانتخابات وأن ينص القانون على انتخاب قيادة جديدة للحزب كل اربع سنوات وألا يعاد انتخاب القيادات نفسِها لأكثر من دورتين متتاليتين.
الخطوة السابعة: تشريع قانون ينظم عمل مفوضية الانتخابات التي يجب أن تكون هيئة قضائية مستقلة تعمل دائما باستقلالية إدارية وشفّافية عالية، بعيدا عن المؤثرات السياسية وأن تتشكل وفق هذا القانون مفوضية قضائية دائمة تشرف على إجراء الانتخابات وتكون هناك رقابة دولية على عملها وإجراءاتها.
الخطوة الثامنة: تشكيل لجنة دائمة من كبار التربويين لكتابة المناهج الدراسية للمدارس الابتدائية والثانوية، الخاصة والعامة، للتأكد من أن المناهج الدراسية لا تثير الكراهية والعنصرية والطئافية والتمييز والفرقة والعنف عند الناس. كما يجب أن تضطلع اللجنة بإدخال المواد التي يحتاجها المجتمع العصري ضمن المناهج الدراسية، مثل السلوكيات الديمقراطية واحترام الرأي الآخر ومراعاة حقوق الإنسان بشكل عام، والمرأة والطفل والمسنين والمعاقين والمرضى بشكل خاص. قد يتوهم البعض بأن هذه الخطوة ليست عاجلة، لكنها في الحقيقة مهمة جدا لوضع البلد على السكة الصحيحة وتعريف الناس بأساسيات الحياة العصرية وضروراتها.
الخطوة التاسعة: تشكيل لجنة من كبار المثقفين وعلماء الاجتماع لوضع برنامج تثقيفي إعلامي واسع النطاق لوزارة الثقافة يهدف إلى توعية المجتمع بالأنماط الثقافية العصرية الواجب اتباعها والسلوك الذي تتطلبه الحياة العصرية وتبيان مساوئ بعض السلوكيات والعادات الاجتماعية الضارة التي يتوهم البعض بأنها جزء من التراث الذي يستحق الإدامة، لكنها في الحقيقة من أسباب تخلف المجتمع. كل عادة وسلوك ضار لا يمكن اعتباره تراثا أو عادة تستحق البقاء.
الخطوة العاشرة: إجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة وبإشراف دولي، وحسب توصية مفوضية الانتخابات المستقلة، ثم تسليم السلطة للحكومة المنتخبة بعد حسم الخلافات والاعتراضات على الانتخابات قضائيا.
الجماعات المسلحة المتشدقة بالدين التي تحكم الآن غير مستعدة للتخلي عن السلطة طوعا، وهذا متوقع لأنها جماعات أسست برامجها على الدجل والخداع والسرقة والجريمة والتبعية للنظام الإيراني الغرائبي في سياساته وتفكير قادته، لكن ذريعة هذه الجماعات للوصول إلى السلطة ثم البقاء فيها هي الدين وادعاؤها أنها تسير وفق إرشادات وتعليمات المرجعية الدينية، وتحديدا مرجعية السيد السيستاني. لذلك اصبح لزاما على المرجعية ان تسعى لتخليص الناس من هذه الجماعات المتشدقة بالدين، والتي تزوِّر موقف المرجعية وتلهج باسمها من أجل خداع البسطاء، مستغلةً صمتَ المرجعية وعدم متابعتها يوميات الحياة السياسية.
إن من يمثل الدين هو الفقهاء ومراجع الدين وليس الجماعات المسلحة التي اتخذت لها أسماءً دينية واتضح بأنها جماعات إجرامية تقتل وتنهب وتفسد في الأرض.
وضع العراق الحالي يقترب من وضع اللادولة خصوصا مع إصرار الجماعات المسلحة على إقحام العراق في صراع عبثي مع أقوى دولة في العالم، ما يجلب عليه الحروب والحصار والتخلف والتراجع، وهذا ما لا يقبله العراقيون مهما كان الثمن وسوف يزيد من عزلة إيران ومناهضة العراقيين لها لأنها تسعى عن قصد لخلق مشاكل لهم دون أي مبرر. إن استمرارَ الاحتجاجات وتصاعدَها سوف يرسِّخ حالة الاحتجاج الاستثنائية لتصبح مألوفة وطبيعية، بينما المجتمعات الحديثة تحتاج إلى الاستقرار كي تنمو وتتطور، ولو كانت القوى السياسية تعي الأخطار البعيدة الأمد لسعت إلى تقديم حلول مقنعة ترضي المحتجين كي تعود الحياة إلى طبيعيتها في المدن العراقية.
لقد أصبح جليا الآن أن الجماعات الحاكمة ليس لديها مشروع وطني، وأن هدفها الأول والأخير هو البقاء في السلطة والتحكم بالناس والاعتداء عليها ونهب المزيد من الأموال، وهذا لم يعد ممكنا في ظل نبذ الشعب لها واتساع الاحتجاجات ضدها وانخفاض أسعار النفط إلى النصف ما يقلص من الأموال المتاحة للإنفاق العام. المرجعية الدينية قادرة على لجم الجماعات المسلحة وتجريدها من الشرعية الدينية التي تدعيها، لذلك أصبح ضروريا أن تردع المرجعية كل من يستخدم اسمها زورا ويدعي بأنه يسير على نهجها بينما هو في الحقيقة يقتل الناس وينهب الأموال ويشيع الفوضى ويضعف الدولة ويعيدها قرونا إلى الوراء باسم الدين ومقاومة الاحتلال، في وقت تتقدم دول العالم الأخرى.