حوار طريف بين قوي وضعيف
د. نزار محمود
للقوة أشكال وأسباب، وكذلك للضعف. كما أن للقوة جولات في الخير والشر، كما للضعف في الإرادة واللا إرادة.في مقهى يجلس رجل طويل القامة، مفتول العضلات، حاد النظرات، كما تبدو عليه ملامح ذكاء، وتقرأ في تقسيمات وجهه عزم واصرار على تحقيق طموحات
.أمام ذلك الرجل صادف أن جلس آخر هزيل القامة والبنية، مستكين النظرات، شاحب الوجه، تقرأ في تقسيمات وجهه التوسل والتسول!أراد الرجل طويل القامة أن يشعل سيجارة فلم يجد قداحة النار، فسأل ذلك الرجل الذي يجلس قبالته. أسرع الرجل ليخرج قداحة النار من جيبه ويضغط على موضع فيها ليشعل سيجارة جليس المقهى. شكره الرجل وكانت مناسبة لتبادل الحديث.الرجل القوي (ق) يسأل جليسه الرجل (ض): يبدو عليك التعب أيها الرجل والحزن. لماذا؟ الرجل (ض): هموم الدنيا كثيرة يا صاحبي. فلا أسرة لي اجتمع معها، ولا مسكن يأويني.الرجل (ق): هل أنت متزوجاً، أم كنت؟الرجل (ض): نعم أنا متزوج، لكن أسرتي لم تعد تطيقني. فلا عمل لي ولا دخل أكسبه.الرجل (ق): ولماذا ليس لك من عمل؟الرجل (ض): ان جميع ما وجدته من أعمال يقتضي نهوضي الباكر صباحاً، وهو ما لا أطيقه.الرجل (ق): هل لديك من مهنة معينة؟الرجل (ض): أنا فنان، أعشق الرسم.الرجل (ق): ولكني أسمع أن هناك من الرسامين من يكسب الكثير الكثير من المال.الرجل (ض): نعم هذا صحيح، لكني لا أستطيع أن أرسم غير ما يعجبني من موضوعات، يبدو أنها لا تروق لمن يرغب في اقتناء اللوحات.الرجل (ق): وماذا هي الموضوعات التي يهمك رسمها؟الرجل (ض): هموم الناس وحكايات البؤساء با سيدي.الرجل (ق): وما هي اللوحات التي تباع؟الرجل (ص): تلك الموضوعات التي تحاكي موضات وصرخات العصر، وكثير منها لا معنى ولا رسالة له.الرجل (ق): ألا تستطيع أن ترسم مثل هذه اللوحات من أجل كسب العيش؟الرجل (ض): لقد جاهدت نفسي لكني لم أتمكن.الرجل (ق): لكنك تعيش ظروفاً قاسية. ألا يدفعك ذلك الى التنازل عن بعض مبدئيتك، ولنقل نرجسيتك، وتقوم برسم ما يعينك على معيشتك وأسرتك؟الرجل (ض): المشكلة يا صاحبي، أن زملائي وأصحابي قد عرفوني واحترموني على هذه المبدئية، وبالتالي يصعب علي كثيراً أن أكون غير ما أنا عليه في نظرهم.الرجل (ق): ولكن، هل يهون عليك وضعك الأسري الحالي أكثر من رأي زملائك وأصدقائك بك؟الرجل (ض): يتلعثم بعض الشيء في الإجابة، ثم يقول: ربما كان علي مراجعة موقفي.الرجل (ق): أعتقد أن عليك ذلك، وأن تنتهي الى موقف واقعي من الحياة.الرجل (ض): سأحاول ذلك. ولكن قل لي يا صديقي: ماذا تعمل انت؟ يبدو عليك، ما شاء الله، الراحة والنعمة.الرجل (ق): أنا رجل أعمال، أقرأ ما يحتاجه ويرغبه الناس، وأعمل على تأمينه لهم، وهذا هو مصدر كسبي.الرجل (ض): بهذه البساطة؟الرجل (ق): بهذه البساطة. لكني يجب أن لا أضع على نفسي قيوداً في ما يحب أن يحتاجه الناس وما يرغبون فيه، كما تعمل أنت.الرجل (ض): سامحني يا صديقي. ألا تجد في ذلك ضرباً من الغاء شخصيتك واحترامك لذاتك؟الرجل (ق): وما علاقة ذلك بشخصيتي واحترامي لذاتي؟ وبالتالي فإن من حق المشتري أن يحدد ما يريد من بضاعة، وليس لي أن أفرض عليه ما يعجبني أنا شخصياً، كما هو موقفك من الرسم.الرجل (ض): والله يا صديقي، حتى لو عقدت العزم على تبديل موقفي من موضوعات رسومي، فإن الأمر يتطلب مني اقناع أسرتي بذلك ووعدها بأن ذلك سيغير من وضعي المادي. احتاج الى شراء بعض المواد والعودة الى المسكن.( هنا تخطر على بال الرجل (ق) فكرة نبيلة!)الرجل (ق): لقد نسيت شيئاً. إن زوجتي، هاوية للوحات التي تحمل موضوعات إنسانية، وبالتالي قد تجد في لوحاتك ما ترغب بشرائه؟ هل لك أن تسرع في جلب لوحتين من لوحاتك؟( ولما كان منزل الرجل (ض) ليس ببعيد عن المقهى، أسرع الرجل وأحضر لوحتين من لوحاته. ودون تحديق عميق، أظهر الرجل (ق) اعجاباً بهما، وأخرج من جيبه مبلغاً مجزياً ووضعه في يد الرجل (ض) ثمناً لهما)الرجل (ض)
: يا صديقي، هذا مبلغ كبير!( يستأذن الرجل (ق) وينهض، فيودع صديقه الرجل (ض) ويذكره بنصيحته، ويذهب الى صاحب المقهى ويدفع له حسابه وحساب صديقه ويمضي خارجاً من المقهى، تاركاً الرجل (ض) مندهشاً تغمره الفرحة)يأخذ الرجل (ص) طريقه الى سوق المدينة فيتبضع بما يكفي الأسرة لأسبوعين من المواد الغذائية المختلفة ويعود بها إلى المنزل.
وتمضي الأيام، والرجل (ض) يرسم لوحة بعد أخرى وفق ما يرغبه الناس، وهو يبيعها دون كثير عناء، وقد عاد الود في الاسرة والحميمية اليها.وذات يوم يذهب الرجل (ض) الى المقهى ويجلس متذكراً ذلك الرجل الذي أعانه ونور عليه حياته بنصيحته الواقعية.
بيد أنه مضى متأملاً البشر في تغير أطباعهم ورغباتهم… تنهد عميقاً، نهض مودعاً وعاد الى مسكنه ليكمل لوحة بدأها ولم ينته منها!