تيار سياسي جديد يقوده المنتفضون
الكاتب : مشرق عباس
“لماذا لا ينسجم المنتفضون والمدنيون والمستقلون والمقاطعون والمترددون العراقيون في تيار سياسي كبير يسعى إلى فرض التغيير المنشود بعد الحصول على مقاعد برلمانية كافية؟”.. يبدو تساؤلا ملحا ومنطقيا أيضا، في ضوء فشل التجربة السياسية للأحزاب العراقية التي تصدرت المشهد بعد 2003، وبروز أجيال شابة تمتلك رؤية أكثر فعالية للعمل السياسي عن الأجيال السابقة، وأيضا من أجل ترجمة حالة الاحتجاج والرفض الشعبية الطاغية إلى أرقام برلمانية حقيقية.
ومع أن كل الظروف في العراق تبدو للوهلة الأولى أنها تخدم ولادة تيار سياسي جامع وفاعل وقادر على التغيير، غير أن الحقيقة على الأرض بحاجة إلى المزيد من التمعن بهذا الخيار.
فالصراع السياسي المندلع في هذه الأثناء حول الحكومة الانتقالية التي يفترض أن تمهد لانتخابات عادلة، يتعلق في أكثر تمثيلاته عمقا بمنع كل الفرص الممكنة لولادة هذا التيار الجديد، بل إن كل عمليات القمع والتنكيل والاختطاف التي مورست ضد المحتجين العراقيين طوال الشهور الخمسة الماضية من التظاهرات الشعبية المتواصلة، كانت موجهة إلى هذه الفكرة قبل سواها.
وكل التهديدات التي تواجه المثقفين والمفكرين والناشطين والأكاديميين المستقلين تترجم مخاوف القوى السياسية الحالية من اندحارها المؤكد أمام قوة سياسية شابة ونزيهة تكتسب ثقة الناس وتلقي بالجيل السياسي السابق إلى محاكم التاريخ، والفاسدين منهم إلى المحاكم الفعلية.
ولكن كل ذلك لا يمثل عائقا حقيقيا أمام ولادة هذا التيار المنتظر، فهو لم يكن عائقا أمام تواصل التظاهرات، كما أن قانون الانتخابات مهما بلغت درجة عدم عدالته لا يمكن أن يمنع تمثيلا هائلا لهذا التيار، والتزوير برعاية مفوضية الانتخابات أو من دون رعايتها، لا يمكنه أن يلغي أصوات الأغلبية في حال اختارت أن تصوت لهذا التيار.
أين المشكلة إذا؟
واقع الحال أن المشكلة تأسيسية، وهي تخص الطبيعة البوليسية للسلطة العراقية التي أجبرت الشباب المتظاهرين، ومعظمهم في مقتبل أعمارهم، على محاولة حماية أنفسهم بتجنب إنتاج رؤى صريحة وكبيرة حول أهدافهم السياسية، ناهيك عن إنتاج قيادات موثوقة لحراكهم، كما أن حملات التخوين منعتهم من تأسيس حالة اللقاء التقليدية في خضم الثورات المشابهة بين الثائرين الميدانيين والمفكرين، لبلورة خطوط ومسارات تسمح بخلق تيار سياسي ينقل الاحتجاج من الساحات إلى قاعة البرلمان.
الأكثر أن ساحات التظاهر التي صنعها الشباب المسالمون العفويون البريئون من الأعراض الحزبية، كانت بيئة مناسبة وغير محمية لزج معظم الأحزاب والمليشيات بعض كوادرها بين المتظاهرين لتشويش الرؤية، واصطياد القياديين، وتفكيك أية محاولة لبلورة منهج سياسي واضح متفق عليه.
ولكن ما هو أكثر حسما في هذه القضية، هو ارتفاع سقف الشعارات الشعبية التي أرست منذ اليوم الأول للتظاهرات حالة القطيعة الكاملة مع كل نمط حزبي، حتى أصبح مفهوم “الحزب السياسي” تهمة بحد ذاتها، وهي مسؤولية يتحملها بالطبع الأداء السياسي الهزيل والفاسد للأحزاب العراقية، التي هشمت عبر عملية سياسية حافلة بالتجاوزات على مبادئ الديمقراطية، فضربت ثقة الشارع بالديمقراطية نفسها كأداة لتغيير الواقع.
كان يمكن في مثل ظروف انتفاضة تشرين العراقية الدامية، أن يحدث انشقاق مدو داخل البيئة السياسية يقود إلى التحاق أحزاب أو شخصيات بالشارع تسهم بدورها في سد الفجوة بين الجمهور وفكرة الحزب، والتأسيس لانتقال أكثر انسيابية لولادة تيار سياسي جديد، لكن ذلك لم يحصل؛ لأن معظم الاحزاب لم تشأ أن تتخذ مواقف ترتقي إلى مستوى الحدث، واكتفت بالتصريحات والتغريدات، بدلا عن اتخاذ قرارات حاسمة مثل الاستقالة من الحكومة والبرلمان وحل نفسها للاندماج في الشارع ومساعدته على تفعيل انبثاقه السياسي.
ولذلك كله، أصبحت المهمة عسيرة، وستكون كارثية في حال اختارت كل مجموعة احتجاجية ميدانية أن تقود عملا سياسيا منفردا، وتهدر الفرصة الذهبية للاجتماع في تيار واحد قادر على نيل ثقة الناس. والأكثر خطورة، ألا يتمكن بعض الشباب، جراء ما عانوه من اضطهادات خلال الشهور الماضية، من فهم الفرق بين العمل الميداني الاحتجاجي، والتيار السياسي الاحتجاجي، وأن يفوت بعضهم أن كسب ثقة الناس خلال الانتخابات مختلف تماما عن كسب تعاطفهم خلال التظاهرات.
لكن كل ذلك لا يعني أن الفرصة قد انتهت، فما زال أمام الشباب الذين سطروا بانتفاضتهم الشجاعة دروسا بليغة في الإيثار والتعاون والتكاتف أمام ماكينة قمعية غير مسبوقة استخدمت كل أنواع العنف المنظم لتفريقهم، مهمة إضافية، تخص الانفتاح على بيئة أوسع لتأسيس تيار سياسي يقوم على الأهداف المشتركة الجامعة بالدرجة الأساس، ويفكر في الآليات الواجب توفرها لكسب ثقة الناخبين بطروحات رصينة وجادة، وعبر شخصيات نزيهة وقادرة على العمل السياسي المنتج.