تجارة الادب بين الربح والمواكبة
الكاتب : امين الزاوي
ان قراءة سوسيو- ثقافية للنقاشات الموسمية، على شبكات التواصل الاجتماعي أو على صفحات بعض المنابر الإعلامية الورقية أو الإلكترونية، التي تندلع في شكل حروب وخصومات، يشترك فيها العام والخاص، القراء والنقاد والكتاب والإعلاميون، يحدث هذا في كل مرة وبمجرد الإعلان عن قوائم جائزة البوكر العربية- الجائزة العالمية للرواية العربية- سواء القائمة الطويلة أو القصيرة، هذه النقاشات بصرف النظر عن حجم قيمتها الثقافية أو النقدية، فإنها تقدم لنا بعض المؤشرات التي تعلن وبوضوح عن حالة تغيُّر يزحف شيئاً فشيئاً على بيئة الحقل الأدبي العربي والمغاربي من حيث القراءة والكتابة وأولويات الأجناس الأدبية في سوق الكتاب وفي هيمنة الذوق الجمالي.
يتجلى هذا التغير الذي يمس الحقل الأدبي، أولاً في قضية الاستقبال أي القراءة الأدبية، تتجسد في ذلك الاهتمام الذي بدأ يوليه القارئ العادي لجنس الرواية، حيث تسجل معارض الكتب في البلدان العربية وشمال أفريقيا إقبالاً لافتاً للقراء على الرواية، حتى أصبحوا يشكلون مجموعة ثقافية متميزة.
يمكن أيضاً تلمُّس هذا التبدل في الحقل الثقافي من خلال السوق الثقافية الكتبية. فقد أصبح الناشر العربي والمغاربي يوليان اهتماماً خاصاً للرواية والمغامرة في نشرها من دون الخوف من الخسارة المادية، بل إن غالبية الناشرين، إن لم أقل جميعهم، أصبحوا يتنافسون في البحث عن أسماء روائية جديدة متميزة لمرافقتها والرهان عليها كأسْهُم ربما تكون رابحة في سوق الكتاب، كما أن بعض دور النشر العربية أصبح لها روائيوها الذين تنشر لهم دورياً، إذ إن كل دار نشر أضحت معروفة ببعض الأسماء الروائية المكرسة. لم نعد نسمع الناشر يشكو من كساد كتاب الرواية كما في السابق، أو على الأقل إننا بدأنا نسمع خطاباً متفائلاً وإن باحتشام على الرغم من صعوبة توصيل الكتاب بشكل عام، إذ لا توجد آليات تسهل مرور الكتاب عبر الحدود الجمركية العربية والمغاربية، وإذا كان سوق الرواية قد تحلحل قليلاً خلال العشرية الماضية فهذا لا يعني بأن حالها أصبحت تشبه حال سوق الرواية في أوروبا، فتلك مقارنة غير واردة أساساً، فنحن لا نملك حتى الآن ظاهرة ما يسمى بـ”البيست سيللر” باستثناء الروائية أحلام مستغانمي، ولكنها قليلة الكتابة، ولا نملك دخولاً أدبياً يمكن من خلاله معرفة ما ينشر بشكل واضح، ولا نملك إحصائيات دقيقة لواقع سوق الكتاب، لأن الناشر هو الموزع وهو المطبعي، وذلك ربما تهرباً من الضرائب أو تهرباً من دفع حقوق المؤلف. لهذا لا تملك وزارة التجارة ولا وزارة الثقافة إحصائيات يمكننا اعتمادها في تحليل الوضع الثقافي بشكل دقيق. وهو ما يجعل إمكانية وضع استراتيجية واضحة لحماية أو إنعاش سوق الكتاب وسوق المعرفة بشكل عام أمراً مستبعداً في الوقت الراهن.
وحين نعلن عن بعض هذا التفاؤل البسيط ونحن نتحدث عن وضع صحي يتعافى قليلاً بالنسبة إلى الرواية في العالم العربي والمغاربي نشراً وقراءة، وعلى الرغم من الأجيال الروائية المعاصرة التي بدأت تتكرس في واقعنا الثقافي والأدبي، إلا أن مجتمعنا لم ينتج روايات كثيرة حتى على المستوى الكمّي، مع أننا نشهد تصاعداً ملحوظاً في نشرها مقارنة مع ما كان ينشر قبل عشرين سنة. فوفق تقديرات نسبية، لا تنشر دور النشر العربية والمغاربية مجتمعة أكثر من ثلاثمئة رواية سنوياً. وهو رقم ضعيف إذا ما قورن بعدد ما ينشر سنوياً من روايات في فرنسا وحدها، إذ تسجل سوق الكتاب الفرنسي نزول أكثر من 600 رواية سنوياً في كل دخول أدبي. يحدث هذا فقط ما بين شهري سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول).
كما أن المتتبع للمشهد الثقافي العام أو الأكاديمي، يلاحظ أن هناك تركيزاً على الجنس الروائي على حساب الأجناس الأخرى كالقصة القصيرة أو الشعر أو المسرح أو حتى الكتب الفلسفية. وتعددت الأطروحات الجامعية بل وتكررت موضوعاتها حول الرواية في جميع الجامعات العربية والمغاربية بشكل لافت، وهو ما يكرس بشكل من الأشكال حضور الرواية في الانتباه العام وفي التداول.
إن كثرة الملتقيات والندوات العامة والمتخصصة التي تتناول الرواية وتعدد الجوائز التي تكرم هذا الجنس الأدبي على المستوى العربي والمغاربي والقطري وتكرس المنافسة حولها، حرضت كثيراً من الأقلام الجديدة على تجريب الكتابة السردية، باعتبار أن الجائزة إضافة إلى التكريم المادي فهي تسمح بتسليط الضوء الإعلامي على هذا الاسم أو ذاك. وهذا أيضاً ما منح الرواية مقعد القيادة الثقافية والإبداعية.
وأمام هذا الوضع الأدبي المحتفل بالرواية وبشكل واضح فقد تحول كثير من الأكاديميين والشعراء والفلاسفة والمفكرين إلى الكتابة السردية، ليس بنية توصيل أفكارهم إلى أكبر عدد من القراء، على اعتبار أن هناك مصالحة قائمة بين القارئ العربي والمغاربي وبين الرواية، ولكن ليحقق هذا الكاتب المفكر أو الشاعر نصيبه من الحضور الإعلامي الذي اختطفه الروائي.
ومع تموقع الرواية في وسط المشهد الثقافي وحيازتها مركز النقاش العام وجلوسها تحت أضواء الإعلام باستمرار، فإنها استطاعت إلى حد ما أن تسحب البساط من تحت الكتاب الديني، وأعني بالكتاب الديني هنا هو تلك الكتب التحريضية، وكتب الفتاوى، وكتب الإسلام السياسي التي تصب في الدعاية الحزبية الإسلامية. هذا لا يعني أبداً أن الرواية انتصرت على الكتاب الديني في قراءة المواطن العربي والمغاربي وفي اهتمام الناشر ولكنها استطاعت، على الرغم من كل ذلك، أن تسحب كثيراً من قراء هذا الأدب الدعائي وجرهم إلى فتنة السرد الروائي. وهو ما يلاحظ بشكل واضح في معارض الكتب (معرض الكتاب الدولي بالجزائر نموذجاً).