بين بورت كلاب المعقل.. وكوزمو واشنطن
هنا المعقل .. هنا البصرة (ثامن عشر)بين بورت كلاب المعقل.. وكوزمو واشنطن – منقذ داغر
لا زلت سائحاَ في فضاء ذكريات الشباب والطفولة عن المعقل متحدثاَ عن ركن الثقافة والترفيه كأحد اركان المثلث الذي صاغ الشخصية المعقلية-البصرة ونظمها في عقد من لآلئ التسامح وقبول الاخر والانفتاح والثقة واللاطائفية.انه عقد المدنية الجميلة المتسامحةالذي نشأنا في كنفه ورضعنا من منابعه. وحين نتحدث عن جواهر الثقافة والترفيه الراقي في المعقل فان نادي البورت كلاب port club يتربع على عرش الترفيه الراقي بلا منازع.في أحدى زياراتي لواشنطن عام 2015 لبّيت دعوة زميلتي باحثةعلم النفس الاجتماعي المعروفة البروفسورة ميشيل كيلفاند للعشاء في نادي نخبة واشنطن(كوزمو Cosmo). وكانت ميشيل فرحة جدا وفخورة كثيرا بأنضمامها حديثاَ لهذا النادي النخبوي الذي تأسس في القرن الثامن عشر والذي لا يقبل في عضويته سوى نخبة المجتمع السياسي والعلمي والثقافي في واشنطن.وطوال اكثر من سنة كانت ميشيل تحدثني عن كوزمو ومرافقه واجواءه الراقية .حين دلفت مساء ذلك اليوم بهرتني صور الشخصيات التي غصت جدرانه بها. فكل رؤساء ووزراء وعلماء أميركا واوربا المشهورين هم اعضاء في ذلك النادي بضمنه 36 عالماَ نالوا جائزة نوبل ونفس العدد من الادباء الذين نالوا جائزة البولتزر.وبعد لحظات الانبهار الاولى والتجول في ارجاء النادي وقاعاته ومطاعمه بادرتُ مضيفتي قائلا،اذا لم يكن نادي البورت كلاب حيث نشأت وترعرعت في المعقل هو اجمل فأنه لا يقل بهاء وجمالا وفخامةَ عما أراه الان. لا شيء مما رأيت ابهرني حقاَ(عدا بعض النقوش الجميلة على الاسقف والجدران) لكنه ذكرني بأيام المعقل الذهبية ونادي البورت(الحلم).مثلما كوزمو نادي نخبة واشنطن فقد كان البورت كلاب نادي نخبة المعقل والبصرة. كانت العضوية فيه صعبة وتتطلب مقابلة مع لجنة القبول التي يراسها (الباشا) مدير عام الموانئ. وهي مقابلة تتضمن اختبار في اللغة الانكليزية واصول الاتيكيت ويعض المتطلبات الاخرى التي رواها لي والدي،وكيف كان فرحا بقبوله عضوا لاول مرة في النادي.بوابة الناديعند دخولك من بوابة النادي الرئيسة تواجهك قاعة الاحتفالات(الشتوية) الكبرى .اما اذا اتجهت يسارا فستصادف اولا قاعة المكتبة المغلفة بالصاج والمؤثثة بكراسي ومقاعد جلدية وثيرة ولماعة وستواجهك المدفأة الخشبية الكلاسيكية(الفاير بليس). هذه القاعة لم تكن مخصصة للقراءة فقط بل كانت هناك غرفة ملحقة بها مخصصة للشطرنج وبطولاته.بعد ذاك تأتيك قاعة البلياردو الجميلة والمغلفة ايضا بالخشب الصاج مع منضدتين للبليارد ومقاعد جلدية داكنة ووثيرة. تتصل قاعة البليارد التي لم ارها يوما خاليةَ من اللاعبين وهم يدخنون السيكار الكوبي ويملئون ارجاءها بالضحكات والاحاديث التي كنا نستمع لها بشغف. كانت هذه القاعة مركزا لكل بطولات البليارد والسنوكر في البصرة.أما اذا اتجهت الى اليمين من مدخل النادي فستلج الى مساحة واسعة من الحدائق الخضراء المقسمة بواسطة مسرح وسطي من الكاشي الخاص الى اربعة حدائق فرعية رائعة الجمال تفوح منها عطور الياسمين وملكة الليل(الشبوي) والجوري والقرنفل التي تملأ ارجائها.هذه الحدائق كانت تغص بالرواد في الصيف حيث حفلات الشموع candle lights party مساء كل اثنين اذ تتزين عشرات المناضد بالشموع التي تتراقص على أنغام فرقة عبد الحسن تعبان(الغربية) أومجيد العلي(الشرقية) في وسط ظلمة الليل المعقلي المعطر بالزهور والمنتشي بأناقة الحضور،في منظرِ شاعري ساحر.ولا تكتمل السهرة الا بكباب البورت كلاب الذي لا زال مذاقه عالقاَ في ذهني.أما حفلات رأس السنة في القاعة الشتوية الكبرى فكان يصعب ايجاد مكان للعوائل المحتفلة حتى الصباح.حين تنتهي من الحديقة الصيفية سيقابلك الكازينو الصيفي الزجاجي المكيف الذي يقدم اشهى المثلجات. من هناك يمكنك الولوج اما الى السينما الشتوية أو الصيفية. كل قاعة سينما كانت تتسع للمئات وتقدم احدث الافلام العربية والهندية والاجنبية يوميا! وسأترك الحديث عن سينمات البورت كلاب والمعقل عموما للحلقة القادمة،وأسرع بالولوج الى المسبح الصيفي الجميل الذي فيه منصتي قفز احداهما عالية طالما خشيناها ونحن اطفال،واخرى واطئة كنا نتسابق في القفز منها.هذا المسبح الذي تعلمت فيه السباحة كانت فيه ايام مخصصة للذكور واخرى للنساء ويوم الجمعة كان للعوائل. وكان يغص ليس بالرواد فقط بل ايضا بحركة دائمة من العاملين على مراقبة سلامة السابحين،ونظافة المياه والمرافق، والنادلين الذين لا يتوقفون عن خدمة الرواد. ومن المسبح يمكنك الذهاب لاستكمال ترفيهك اليومي اما لحديقة المراجيح أو لساحتي التنس اللتان يتناوب عليهما اللاعبين الكبار والصغار. لقد كان ملعبي التنس هذين هما المدرسة الاولى التي تعلمت فيها اللغة الانكليزية لكثرة روادها الاجانب،وزادت من ثقتي بنفسي لانهم كانوا يشجعوني على التحدث بالانكليزية مع كل الاغلاط التي ارتكبها. كما علمتني هذه الرياضة النبيلة والراقية معاني الفوز والخسارة والروح الرياضية الحقيقية. علمتني ان كلمة لوف love التي تعني (صفر) قد استخدمها مخترع اللعبة لكي لا يحرج حبيبته التي لم تكن تجيدها ويقول لها ان نتيجتها صفر فاستخدم كلمة حب بدلا من صفر.مرفق ثقافيوكما يمكن تصوره فأن نادي البورت كلاب الذي لا شك اني أوجزت في وصفه،وقصّرت في التغزل به ،كان مرفقا ثقافياَ،ترفيهياَ،رياضياَ وأجتماعياَ قبل كل ذلك. لقد كان أحد أركان البنية الاجتماعية الصانعة للشخصية المدنية.فهو مدرسة لتعلم فنون الحديث مع الاخر،وممارسة الاتيكيت بارقى مفاهيمه، وزيادة الثقة بالنفس عن طريق تعلم كثير من المهارات الرياضية والثقافية،فضلا عن انه كان يملا تقريبا كل يومنا بأنشطة مفيدة في وقت لم تكن فيه العاب الفيديو والانترنت قد عرفا بعد.وساستفيض أكثر في شـــــــرح الاثار الاجتماعية لهذه المنشآت عندما اتطرق لنادي الميـــــــناء الرياضي وبقية المنشآت الثــــــــقافية والترفيهية في المعـــــقل في الحــــــلقات القادمة.