بوح:أنتَ أكيد في العراق
عذاب الركابي
إذا وجدتَ نفسكَ بلا اسم ، ولا عنوان ، وخارجَ الزمن ، ولقب الشهرة الضياع ، والاسم الحركيّ الرفض ، وحياتك تشكو من الحياة ! .. أنت أكيد في العراق ! . إذا لوّنَ وسادتَكَ القلقُ ، وطال ليلُكَ بظلمتهِ وبردهِ ووساوسهِ ، وتلاشت كلُّ خطوةٍ من خطواتِكَ بفعل جمرِ انتظار الانتظار ، ونفدتْ عطورُ أحلامك ، وتهتَ في دهاليز همّك وأولها بلا آخر ، أو تاهت بكَ دروبك ، وتورّطت بأسرةٍ أو تورّطت بكَ ، وصارت أمنياتك عبئاً .. أنتَ أكيد في العراق ..! . إذا فكّرتَ بما لايردُ في بالِ وخاطر الشياطين والجنّ والعفاريتِ ، بركوبِ البحر ، أو النوم في محطةٍ رطبةٍ وباردة ، أو لتستريح على ضفاف ميناء مظلمٍ مهجور ، تاركاً وراءك ذكريات ، وبلدكَ ، وأهلكَ ، وجيرانكَ ، وأصدقاءك ، وطقوس الأعياد والأفراح في حارتِكَ ، وسُفّهت كلّ خطوةٍ لك فوق هذهِ الأرض التي رضعتَ حليبها ، واستبدلتَ الارتواء بالضمأ ، والأمل باليأـس ، والحضور بالغياب ، وأضحت ال-” أنا” لا أحد .. أنتَ أكيد في العراق ..! . إذا فقدتَ في يومٍ ما أيّ مستندٍ يثبت شخصيتك ( بطاقة أحوال مدنية – شهادة جنسية – جواز سفر) وذهبتَ واثقاً مطمئناً متوّجاً بنسماتِ حُلمك ، إلى أقرب مؤسسة أو دائرة أحوال مدنية في مدينتك ، وصُدمتَ بطلبات وشروط الحصول على مستندٍ جديد ، ليست لها وجود إلا في اللوائح العثمانية ، فقد يُطلبُ منك شهادة ميلاد سابع جدٍّ لك ، أو وثيقة زواج جدتك ، ممهورة بتوقيع مختار المحلة وهو في ذمة الله ، أو شهادة حياة وأنت أمام الموظف المسؤول وجهاً لوجه ، وإذا ما وفقك الله إلى كلّ ذلك ، فلابد من تأييد المرجعية الدينية ، وإذا ما اشتعلت غضباً ويأساً وإحباطاً حتى البكاء .. فأنتَ أكيد في العراق ..! . إذا أخذت محطات الكهرباء إجازة مفتوحة في مدينتك ، ورحلَ أو شحّ الماء غضباً من سدود وجسور الحكومة والبرلمان التي لاتُعدّ ولا تُحصى، وهبّت سموم صيف العراق التموزية الحارقة ، بسرعةٍ فاقت سرعة الضوء ، ونهشت أفعى المللِ لحمَ جسدك ، وأحسستَ بالاختناق حتى الموت .. أنتَ أكيد في العراق ..! . إذا طلبَ منك موظف في أيّ مؤسسة أو دائرة حكومية أن تبصم بإصبعك ، الوسيلة المتخلفة الوحيدة لإثبات شخصيتك ، وهو إصبعك نفسه الذي تنقر بهِ على كيبورت جهاز الكمبيوتر ، وساءكَ ما أنتَ عليهِ من موقفٍ مُخجلٍ ومُدمّرٍ روحياً ،يذكّر بعصور التخلف والظلام ، قبل خمسة عشر قرنا مضت ، وأنتَ ابن اليوم والعصر والمستقبل وشعلة من الطموح ، حيث عصر غزو الفضاء ، وجنون التقنية ، ومواقع التواصل ، والذكاء الصناعي ، والعالم بين يديك بنقرةٍ واحدةٍ على جهاز الكمبيوتر ، ستغضب ، وتنفعل ، وتلعن زمنك الذي عافهُ الزمن .. أنتَ أكيد في العراق ! . إذا أصبحت ألعوبة ، بل هدفَ مليشيات مسلحة من كلّ جنسٍ وعقيدةٍ وهوية ، تابعة لقوى خفية وظاهرة ، قوى أخطبوطية ، ليسَ لها أذرع فحسب ، بل سجون ودستور وعَلم ، وإذا ما رأيت تستّر وحماية الحكومة لها ، والاعتراف بوجودها الأخطبوطيّ وتسلحها وفوضاها اللأخلاقية .. فأنتَ أكيد في العراق ! . إذا ما فكّرتَ في نُزهةٍ ربيعية ومعك أطفالك في أحدِ شوارعِ بغداد الجميلة ، مطمئناً من أنَّ الأمنَ مستتب ، والوضع تحتَ السيطرة ، والشوارع ضاجة بالحياة والفرح ، حتى ولو إحساس زخرفيّ ، ووجدتَ نفسكَ تعيش الواقع – الحلم ، وانفجرت سيارة بقربك ، وتطايرت أشلاءُ أطفالك ، وأشلاءُ آخرين .. فأنتَ أكيد في العراق ! . إذا أصبحَ الفساد يحكمُ ، والفاسدون ودواعش المال العام في مملكتهم المخملية الآمنة ، تنوعت ، وتعددت مناصبهم ، وهم في حصانة حتى انتهاء الزمان ، يسرقون قوت يومك جهاراً نهاراً ، ويدوسون بعنادٍ ورود أملك ، والعدالة عرجاء .. وحينَ يستولي عليك اليأس ، فأنتَ أكيد في العراق ! . وإذا نمتَ ليلَكَ حزيناً ، وجفناك عافتهما الأحلام ، ولاينطبقان قلقاً ورُعباً من الآتي ، واستيقظتَ مذعوراً على قرارات حكومةٍ جديدة ، ورئيس وزراء جديد ، كلّ ثلاثة أو ستة شهور .. أنتَ أكيد في العراق !