بازارات وشورجات ومافيات
د. عماد عبد اللطيف سالم
الأزمات المُركبّة في العراق (الإقتصاديّة والمجتمعيّة والسياسية)، وما يتفرّع عنها من أزمات فرعيّة في منظومات الصحة والتعليم والقضاء والإدارة، والحُكم، وإنفاذ القانون، وغيرها كثير.. ليست وليدة عواملَ مُستَجَدّة.إنها مُركبّة، ومُمتدّة، ومُستدامة، ولم يفعل COVID 19 شيئاً أكثر من تقديم أجل تفجيرها في وجوهنا، من عام 2023 أو عام 2024 (كما توقعّت دراسات سابقة، وطنيّة ودوليّة، بصدد توقيت هذه الأزمات) إلى عام 2020، الذي نواجه فيه، هذا الذي نواجهه الآن، العراق في أزمةٍ دائمة.متى لم يكن العراق كذلك؟ هذه حقيقة واقعة، ومُعطاة، فما الذي يمكن لنا أن نفعله إزاء ذلك؟لنترك كلّ شيء ونذهب إلى الإقتصاد، في مُحاولةٍ يائسة وأخيرة لتقديم شيء ما، تحاوِلُ كمواطن (بحكم عملكَ أو تخصّصك أو إهتمامك)، أن تضَعَ إطاراً لعملٍ غير تقليدي، وأن تُقدّم حلولاً غير نمطيّة لـ “شلل” وعجز القطاع الخاص، فتجد أنّ موضوع القطاع الخاص في العراق، هو موضوع سياسي بإمتياز، وإنّ “قضيّة” القطاع الخاص في العراق هي قضيّة سياسيّة خالِصة، وأنّ مشكلة عدم فاعليّة القطاع الخاص في العراق، هي مشكلة سياسية في المقام الأوّل.وأنّ هناك إرادات سياسيّة لا تريد لهذا القطاع أن يكون مُنتِجاً وفاعِلاً، و ُوَلِدّاً للدخل والوظائف، بل لا تُريد، ولا ترغب، بأن يكون هناك قطاع خاص في العراق أصلاً (لا محلّي، ولا أجنبي) لكي لا تتضرّر المنافع المترتبة على النمط الحالي لتجارة المستوردات، ولكي تبقى مكاسب هذه “التجارة”، مُقدّسةً، لا تُمَسّ.تذهب إلى التجارة الخارجيّة، فتجد أن موضوع الإستيراد، و المنافذ الحدوديّة والرسوم الجمركية، والنقل، والمواصلات، والموانيء، والأرصفة.. هي ليست موضوعات لها علاقة بالإقتصاد، والسياسة التجاريّة والمصالح الإقتصاديّة الوطنيّة -“السيادية” العُليا، بل هي موضوعات تقع في صُلب مصالح القوى السياسية المُتنفّذة في العراق، ومن يحاول المساس بهذه المصالح، عليه أن يدفع الثمن غالياً، بالعاجلِ أو بالآجل، أو بالتقسيط “المُريح”.تذهب إلى السياسة المالية، فتجِد أنّ الرواتب، والضرائب، والقروض (الداخليةّ والخارجية)، والإنفاق العام، والإستثمار العام، والدَيْن العام، وغيرها .. هي موضوعات ذات صلة بـ “المزاج” السياسي للمُتنفّذين والمؤثرّين في الكتل والأحزاب الحاكمة و “المُتحكّمة” في العراق الحاليّ، وهم الذين يضعون “قواعد” العمل الرئيسة لهذه “الأدوات”، وهم الذين يفرضونَ “الصِيغ” الخاصة بصنع السياسات.حتّى السياسة النقدية، حتّى أسعار الفائدة، حتّى سعر الصرف، حتّى الإحتياطيّات الدولية، حتّى حوّالات الخزينة، حتّى نافذة بيع العملة، لم تعُد شأناً إقتصاديّاً خالِصاً، بل هي موضوعات تقع في صُلب صراع مريرٍ بين أطرافٍ سياسيّة، تتنازع بشراسةٍ للحصول على أكبر “حُصّةٍ” من السلطة والثروة ، وعلى ما تبقّى من “فُتات” الموارد ، في هذا البلد المنكوب.أمّا المصارف الأهليّة (ومعها الكليّات والجامعات الأهليّة)، فهي مجرد دكاكين و “بسطيّات” سياسيّة (أو تحظى بحماية سياسيّة مباشرة، وغير مباشرة) لغرض عقد الصفقات، واستحصال العمولات، و”توظيف” الأموال “السائبة”، و”غسلها”، وتهريبها إلى الخارج ..(وبالنسبة للشقّ الأهلي من التعليم فهو مجرد واجهات ، و”وكالات” و “مكاتب” لطبع الشهادات “العلميّة”، وتحقيق أكبر عائدٍ ممكنٍ من “استثمار” رأس المال المُتاح، لا في قطاعات الإقتصاد “الحقيقي” المُولَدّة للدخل، والخالقة للوظائف، بل في “تخريب” بُنية التعليم، وضخّ المزيد من “حملَة الشهادات” إلى “الشارع”، وليس إلى سوق العمل).هل الإقتصاد والموازنة والسياسات الإقتصادية العامّة، وغيرها من القضايا ذات الصلة بالشأن الإقتصادي، هي موضوعات لها “أبعاد” سياسية في نهاية المطاف؟نعم، هذا صحيح في “علم” السياسة، كما هو صحيح في “علم” الاقتصاد، غير أنّ الذي لدينا الآن لا هو”عِلم” سياسة، ولا هو “عِلم” إقتصاد.لدينا الآن “بازارات”، و”شورجات”، و”دكاكين”، كبدائلَ عن “مؤسسات” الإقتصاد الحديث، لدينا “مافيات” مُستَقّرة، تعتاش على “صيانة” نسبية لمصادر توليد الدخل والناتج، بهدف إدامة مصادر “الأتاوات”.. وليس لدينا “قيادات” دولة، ولدينا أيضاً “عصابات جوّالة”، تنهب كلّ ما يتاح لها نهبهُ على عَجَل، وتلوذُ بالفرار، كيف يمكنُ لأيّ مواطنٍ، يعتقِدُ أنّ بوسعهِ أن يُقدّم شيئاً، أو يقتَرِحَ شيئاً، أو يُفكّرَ في شيءٍ لهُ معنى، وجدوى، أن يفعل شيئاً من ذلك، في إطار “بيئةٍ” كهذه؟علينا أن نُفكّر جميعاً في تقديم إجابةٍ واضحةٍ وصريحةٍ، و شُجاعَة، عن هذا السؤال، نحنُ الآنَ على حافّةِ الجُرْف، ليس فوقنا شيء .. ولم يَعُد لنا شيء .. وليس تحت أقدامنا غير هاوية سحيقة، لن تكون رحيمةً بالضعفاء.