النظام العراقي الجديد وثقافة التنصل من المسؤولية..
د. ولي علي
تكتظ القنوات التلفزيونية والاذاعات وكافة وسائل الاعلام العراقية منذ سبعة عشر عام بآلاف المقابلات واللقاءات، والتي يكون ضيوفها بالعادة (نواباً، اعضاء مجالس محافظات، وزراء، مسؤولين حكوميين، قادة سياسين، محللين…) لمناقشة مختلف الموضوعات، ويظهر من معظمها، إن لم نقل من جميعها، ان المتحدث مهما كانت صفته وحدود مسؤوليته بالموضوع محل البحث (ينفض يده) معلناً براءته من التبعات، وملقياً بها على من سبق أو على جهة ثانية، او يصور نفسه بوضع المجبر والمكره على تحمل المسؤولية أو انه يجهل الطرف الذي تقع على عاتقه المساءلة، وفي كل الاحوال، يخرج نفسه من دائرة المسؤولية، وبخطاب محايث لذلك، نسمع ادانة جماعية للفساد وسوء الادارة ولكل النواقص التي تعتور النظام والحالة العراقية، وكأنهم يقولون، ان اقواماً نزلت من السماء او خرجت من باطن الارض، او زمرة اشباح، هي المسؤولة عن كل هذه التداعيات والخراب، وهو حديث يتضمن في طياته (استخفافاً واستهانة، بل سخرية) بالمستمع والمتابع، الذي يسمع وزيراً تسلم زمام الامور لاربعة سنوات، وكانت يده مبسوطة، وقد عاث في وزارته فساداً، ثم يتحدث اليوم عن انجازات ذهبية قام بها، او يقدم مشورة لما ينبغي فعله بما لم يفعله عندما كان في سدة المسؤولية، فضلاً عن انه لم يقدم على الاعتراف ولو بتقصير او خطأ بسيط تم ارتكابه خلال مرحلته.ان ثقافة التنصل من المسؤولية لم تقف عند حدود حديث الاشخاص، بل سرى دائها حتى الى الاجراءات والتبعات القانونية، فقد صك اسماعنا حديث المطالبة بالحسابات الختامية في اكثر من دورة برلمانية، وبالمقابل لم نشهد ولا مرة واحدة معطاً حقيقياً للمحاسبة على اثر تلك الحسابات، سواء للجهة التي تمتنع اصلا من تقديم الحسابات الختامية او لمن يظهر تورطه في انفاق المال العام بغير وجه حق، وهكذا عشرات لجان المتابعة والتقييم والحساب والمؤسسات المعنية بذلك والتي تنفق ميزانيات تشغيلية ضخمة بدون جدوى، دون أن نتلمس آثاراً حقيقية لمكافحة الفساد وايقاف عجلته.يطالعنا الكثير ممن يريد الضحك على ذقون الناس، واستغفالهم في الموسم الانتخابي او في اطار معركة الصراع السياسي، وهو يتحدث عن موبقات الارض كلها على انها من فعل الحكومة الحالية وادارتها، و(انا هنا لست في معرض الدفاع عن هذا او ذاك)، ولكن بقاء ثقافة التنصل من المسؤولية راية يسلمها جيل الى الذي يليه، دون ان يكون هناك وقفة شجاعة جادة تسمي الاشياء بمسمياتها، وتحمل قهرا كل ذي مسؤولية مسؤوليته، سيبقي دوامة الفشل والفساد والخراب دون توقف، ولن يكون هناك أي أمل لأصلاح حقيقي، فهل من المعقول، ان العراق اصبح مفلساً ومديناً بين ليلة وضحاها، وهل من المنطقي، ان كل المشاريع والاستثمارات كانت تسير على اكمل صورة ثم فجأة تعطلت بفعل ادارة هذه الحكومة، وهل ان علاقات العراق كانت متوازنة ومتماشية مع حاجاته ثم اصبحت في حالة مختلة، وهل ان المؤسسات والدوائر والقطاعات كافة كانت بيضاء اليد ثم تورطت بالفساد بدون سابق انذار في ظل الحكومة الحالية؟!!ان هذه الاسطوانة المشروخة يدركها كل العراقيين من كبيرهم الى صغيرهم، فقبل ان نتحدث عن مبيعات النفط الحالية وموارد المنافذ الحدودية وغيرها من مداخيل العراق، لا بد ان نتحدث عن مئات المليارات التي تم اهدارها وسرقتها وتضيعها بسياسات رعناء ومحاصصة مقيتة وفساد وقح، تجاوز على المال العام، وبدد ثروات العراق ومدخولاته في ازمنة ذهبية، وصل سعر النفط فيها الى اكثر من 140 دولاراً، كما ان تلك السياسات، ضيعت فرص دعم عالمية، اجتمع فيها العالم من شرقه الى غربه، ليقف الى جانب العراق، ومع ذلك لم يتم استثمار الامور بالشكل الصحيح.ان الانصاف، ان نحمل كل جهة مسؤوليتها على وفق الفرص والامكانات المتاحة لها، فلا يتساوي من ملك ثماني سنوات من متسع العمل مع الذي يحكم خلال اشهر محدودة، وهكذا حجم القدرات الاقتصادية والثروات والظروف السياسية، ولا بد ان تكون مساءلة البدايات اعظم واكبر واشد من مساءلة النهايات، لان النهايات محكومة بتداعيات البدايات، ولان فرصة الاصلاح والعمل في البداية اكبر بكثير من النهايات التي تضيق بها الافاق، وتصبح الخيارات محدودة وفقيرة.ان هذه الحكومة مطالبة بان تتحمل مسؤولياتها بشجاعة، ولكن في حدود ما متاح لها من ظروف وفرص وامكانات، وفي ظل ما ورثته من اوضاع سياسية واقتصادية معقدة، ولكن في الوقت نفسه لا بد ان تتحمل كل الجهات التي سبقتها مسؤوليتها الاخلاقية والشرعية والقانونية، وان هذا التحمل ليس منة او فضلاً او ميزة يتفاخر بها من يقوم به، بل هو احد التوابع المهمة والاساس لمضمون تحمل التكليف والمسؤولية، ففي ذات الوقت الذي يقبل به اي احد الوظيفة الحكومية مهما كان مستواها ودرجتها، فانه يقبل ضمناً المساءلة والمحاسبة، وملزم بتحمل مسؤوليته عن كل تقصير كان بسببه بشكل مباشر او غير مباشر.ان الموسم الانتخابي، وارضية التنافس السياسي تغذي بشكل مخجل عهر تقاذف المسؤولية، والتنصل منها، وان منهج الاستهداف السياسي الذي يمارسه المعظم عبر استغفال العقول واظهار العراق بانه جنة خضراء قبل مجيء هذه الحكومة، وان الاحوال كلها تردت خلال هذه الفترة، لن ينطلي على الناس، ويدرك الجميع مسلسل الخراب والفساد منذ الحلقة الاولى وحتى نهاياته، ويحفظون ابطاله عن ظهر قلب،وان ذاكرة العراقيين حديدية، ولم لن ينسوا أحدا ساهم في خراب بلدهم من السابقين واللاحقين.