“المهفة” الوطنية
حمزة مصطفى
كإبن ريف رافقتني المهفة منذ نعومة أظفاري. فالقرى والأرياف في عموم العراق لم تنل حظها من الكهرباء الإ في عقود متأخرة من الزمن.
كنا كأبناء ريف راضين بقسمتنا لأننا في الواقع لم نكن نعرف إنها “قسمة ضيزى” مع المدن لاسيما الكبيرة وفي مقدمتها العاصمة بغداد الإ في وقت متأخر. كان الدخول الى بغداد مع أهالينا في مناسبة واحدة فقط وهي زيارة الطبيب أو المستشفى تعد بمثابة حدث تاريخي نبقى نحكي به أياما وأياما قبل أن ندخلها فيما بعد “مريفين” لا فاتحين حين أصبح في أظافرنا طحين. أبناء العاصمة الهادئين الحلوين الحبابين “الكافي خيرهم شرهم” إعتبروا دخلونا للمدينة, دارسين وعاملين, مثقفين وفنانيين وكادحين متعبين بماثبة غزو همجي يشبه غزو البرابرة وربما المغول, فنحتوا مصطلحا بشأن ظاهرة هجرة أبناء الريف الى العاصمة أسموه “ترييف المدينة”. هناك من يقول حقها العاصمة حيث كانت مكتفية بأغانيها الإرستقراطية مثل “حركة الروح لمن فاركتهم” لعفيفة إسكندر أو”ولفي الغدار .. يطلبني بثار” لرضا علي. وحين إستفسرنا عن هذا الثار في مدينة مسالمة وإذا بهذا الولف الغدار يضع “كومة حجار بباب الدار”. ضحكنا كثيرا لأن مفهوم الثأر بالنسبة لنا هو “الدكات” التي لم يكن بغدادي أصلي واحد يسمع بها لكنها اليوم أصبحت مألوفة لأرقى أحياء العاصمة. حين دخلنا المدينة زرافات ووحدانا ومن أبواب متفرقة جئنا حاملين كل أوجاعنا ولوعاتنا ومهفاتنا مع أصوات داخل حسن وسلمان المنكوب بنحيبهما الفاجع مع أنين مقابل لهما لزيادة اللحمة الوطنية متمثلا بأنين جبار عكار صادحا في شوارع بغداد الباذخة آنذاك “ياذيب ليش تعوي .. حالك مثل حالي”.
وحين “يباوع” الأهالي من الشبابيك الى الشارع باحثين عن هذا الذئب الذي يعوي في شارع الرشيد أو السعدون بينما لاتملأ تلك الشوارع سوى الكلاب السائبة يصابون بالدهشة على هذه المصيبة التي حلت بهم مع أصوات متصالحة حتى مع الذيب.
وبين رضا علي وعفيفة إسكندر من جهة, وداخل حسن وحضيري أبو عزيز من جهة يصدح أحمد الخليل مرددا “هربجي كرد وعرب رمز النضال”.
إستذكاري لـ “المهفة” أيام زمان أعادني اليه منظر مدرس في إحدى مدارسنا قبل أيام. ففي ظل درجات حرارة خمسينية حيث يؤدي التلاميذ إمتحانات الباكلوريا كان هو يتولى “التهفيف” لطلاب صفه الممتحنين إثر إنقطاع التيار الكهربائي في أول ساعات الصباح.
الفيديو الذي ظهر فيه هذا المدرس تناقلته كالعادة وسائل التواصل الاجتماعي كما إستضافته قناة “الشرقية” في حصاد الأخبار ليشرح للمشاهدين أبعاد مبادرته الوطنية.
المبادرة بحد ذاتها طريفة وذات رمزية عالية كونها تمثل إحدى رسائل الإحتجاج على واقع الكهرباء في العراق بعد مرور عشرين عاما على على التغيير الذي لم يحدث أي تغيير على صعيد الكهرباء في البلاد. التغيير شمل فقط حرية التعبير والتهفيف.
كانت الدكتاتورية تسمح لحمدية صالح أن تقول بأعلى صوتها “الحبيب ظالم” فيلعلع رصاص كبار المسؤولين على رأسها مع حفنات الدنانير التي تملأ المكان طالما أن الظالم هو الحبيب لا غير شي.
وفيما لايترتب على ظلم الحبيب أية تبعات, فإنه لاتبعات على حرية التعبير طالما كل مالايعجبنا نرميه في سلة “المحتوى الهابط” فإن مما لاجدال فيه أن العراقيين المهففين غير المتكهربين ليس بوسعهم خلال أشهر الصيف سوى عقد المزيد من مذكرات التفاهم مع أصحاب المولدات الذين تكثر في شهري تموز وآب عليهم الطلبات.
ففي هذين الشهرين المباركين يصبح الحديث عن الكهرباء مثل حديث من يفسر الماء بعد الماء.
أو من يستعيد بتقنية الفار أغنية “جيرانكم يهل الدار والجار حقه على الجار” ولو .. واير سحب للخطار.