المعقل والبنية التحتية لإجتماع المدينة
هنا المعقل.. هنا البصرة (5)المعقل والبنية التحتية لإجتماع المدينة – منقذ داغر
في هذه الحلقة وما يتبعها سأقوم ب(تزويم)عدسة سردية ذكرياتي في المعقل لالتقط تلك الصور التي تخدم هدفي من هذه السلسلة التي تريد استلهام الدروس لبناء مجتمع مديني انطلاقا مما كانت تزخر به مدننا-ومنها المعقل- من بنية اجتماعية تحتية ساهمت في صقل الشخصية المدنية العراقية.أكرر،انا لست مؤرخاً ولكني احاول البناء على التاريخ كما فعل الكثيرون ممن تعلمت منهم من قبل مثل ابن خلدون والوردي ،لدراسة الجوانب الاجتماعية في تاريخ مدينتي البصة ومعقلها الجميل.أسم المعقل ينسب الى الصحابي معقل بن يسار المزني الذي ارسله الخليفة الثاني عمر بن الخطاب(رض) أميرا على البصرة وبنى فيها دارا له كما يقول ابن كثير في البداية والنهاية ومات فيها في خلافة معاوية. والمعقل كانت قرية صغيرة تبعد بحدود 5 كم عن مركز البصرة قبل ان يختارها الانكليز موقعا لانشاء الميناء عام 1916 والذي انتهوا منه عام 1919. ونظرا لثقل كلمة معقل على اللسان الانكليزي فقد لفظوها (مآكِل) وحورها البصريون الى (ماركيل) وهو الاسم المحبب لكل من سكنها او زارها أو تغنى بها(مثلي). بعد أكمال انشاء الميناء أصدر الجنرال القائم باعمال الجيش البريطاني في العراق آنذاك (فلتسترمكمن) بيانا سمي بيان ميناء البصرة المؤقت في 8 ت1 1919. عُدّ هذا البيان بمثابة دستور ادارة الميناء. وفي أول ن?سان 1920 ، انتقلت إدارة الم?ناء من السلطة العسكر?ة إلى سلطة مدن?ة. وبناءً على الحاح الحكومة الوطنية العراقية المتشكلة حديثا آنذاك فقد وافق البريطانيون على نقل ملكية الميناء الى العراق مقابل ( 72لكاً) من الروبيات(اي حوالي 12 مليون دينار) عام 1923، على ان يسدد العراق المبلغ بالاقساط وبفائدة سنوية 5 بالمئة وفعلا تم تسديد كامل المبلغ ليس من الخزينة العامة بل من عائدات الموانئ السنوية.لكن ادارة الميناء استمرت انكليزية ومر الانتقال نحو الادارة العراقية بمراحل لحين صدور قانون مصلحة المواني رقم 40 لسنة 1956 الذي جعل الادارة عراقية خالصة.اجتماع بشريأشرتُ في الحلقة الثالثة ان اهم مايميز الاجتماع البشري هومزيج الحاجة الانسانية للبقاء(الامن) والنماء(التعاون) لدى ذلك المجتمع. فمجتمع الغابة والصحراء يتطلبان مزيد من التأكيد على حاجة الامن وغريزة البقاء بسبب ظروفهما الايكولوجية. اما مجتمع الريف فهو وان كان يحتاج للتعاون لتنظيم الري وانجاز الاعمال التي تحتاج الى جهد جماعي كالحصاد،لكنه يحتاج الى قدر مماثل من الامن المرتبط بحماية الزروع والاراضي والقنوات المائية من اعتداءات المزارعين المجاورين او من رعاة الغنم والابقار وسواها. ولعدم او ضعف وجود سلطة عليا تحميهم فهم مضطرين للاعتماد على الاقارب والعشيرة لتأدية تلك الوظيفة. بالتالي فانهم يفضلون السكن في مجموعات مجتمعية تكون فيها العصبة العشائرية قوية. اما المدن (كالمعقل) التي تبنى لانجاز وظائف اقتصادية معقدة ومركبة ولا ترتبط بملكية الارض اساسا،فأنها تنشأ لتحقيق النماء والتطور الذي لا يمكن تحصيله الا بالتعاون الانساني. وعلى الرغم من ان الحاجة للامن تبقى اساسية عند ساكني المدن الا انه يمكن تحقيقها بواسطة سلطة اعلى لا تكون تابعة للعشيرة.ونظرا للطبيعة المركبة للميناء مثلا والذي يتطلب وجود مهن ووظائف كثيرة(الكابتن والمهندس والاداري والمحاسب وسائق السيارة والحداد والنجار…الخ) ومترابطة لانجاز اهدافه،فأنه لا يمكن الاستعانة بعشيرة او عشيرتين او ثلاث لانجاز كل هذه الاعمال!بذلك تتسع الحاجة للتعاون الانساني بين أناس من خلفيات وانتماءات شتى وقد تكون متباينة.انشاء شركةان اي تعاون حتى ولو على صعيد بسيط كالعمل ضمن فريق رياضي او انشاء شركة صغيرة يتطلب اولا وقبل كل شيء توفر عنصر الثقة الذي يعدّه المختصون السمنت الرابط للمجتمع والذي بدونه يتفكك المجتمع.وأذا كان الانتماء القبلي او الاسري يحل محل الثقة في الريف،فأن لا شيء يحل محل الثقة في المدن. ولكي تخلق وتعزز الثقة في اي مجتمع فأنك بحاجة الى ما أسميه مصانع الثقة. هذه المصانع تمثل البنية الاساسية لمجتمع المدينة وهي التي اجاد الأنكليز-الذين وعوا اهميتها لنهوض امبراطوريتهم- خلقها عندما صمموا وبنوا المعقل. وليس لدي دليل الان يفيدني فيما اذا كان الذي وضع المخطط الاساسي للمعقل واعيا لاهمية خلق بنية اساسية مجتمعية مولّدة للثقة بين ساكنيها او لا. لكني اجزم ان البنية الحضرية للمدينة كانت تعج بمصانع الثقة وصيانتها. فماهي مصانع الثقة التي عايشتها ووعيتها في المعقل في ستينات القرن الماضي وساعدت على بناء الشخصية المدنية لجيل كامل من العراقيين؟ انتظروا الحلقة السادسة.