المثلية الجنسية وحرب الثقافات
منقذ داغر
يجب قتلهم..حرقهم..نفيَهم،أو على الأقل حجرهم في محاجر صحية لأنهم مرضى ينقلون عدواهم الى المجتمع فيهددون وجوده! هكذا قال محدثي في دفاعه عن سبب معاداته للمثلية. أنها نظرة الفريق الثاني المعادي لهذه الظاهرة بعد أن وعدت في الحلقة السابقة بعرض وجهة نظرهم.أنهم المحافظون بمختلف أتجاهاتهم والتي أفرزت أتجاها شديد التطرف ضمن ما بات يعرف باليمين المتطرف Far Right . لقد كانت حركة الدفاع عن المثليين والتي يرمز لها أختصاراً ب (LGBTI) أو مجتمع الميم هي أهم نتاج تيار الليبرالية التقدمية الجديدة الذي أسرت الى مضامينه في المقال السابق.
يضم مجتمع الميم طيف من المثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية وحاملي صفات الجنسين. جاءت هذه الحركة لتصب النار على الزيت في الحرب الأزلية بين الثقافة المحافظة والثقافة الداعية للتغيير في كل المجتمعات عبر البشرية.
هذه الحرب الثقافية أستعرت أوارها بشدة بعد أعصار العولمة والتغيرات الجيوسياسية التي حصلت بعد سقوط الأتحاد السوفيتي وظهور الأتحاد الأوربي وبروز التيار الكلينتوني(نسبة الى كلينتون) في أمريكا في تسعينات القرن الماضي.لذا لا يمكن فهم الموقف من تأييد أو معارضة المثلية الا ضمن هذا الأطار الكلي الواسع.
لم تمر هذه التغيرات السياس-أجتماعية دون زلازل أرتدادية في كل المجالات ومنها المجال الثقافي. فظهرت مقاومة شديدة،وأحياناً عنيفة من قبل بعض الجماعات التي ترى في هذه التغيرات تهديد جدي لما ألفوه وتربوا عليه وعاشوا في كنفه من ثقافة أجتماعية باتت مهددة بالفناء مما يستدعي الدفاع عنها بكل الطرق. لقد كان البريكزت Brexit والحركات اليمينية والفاشية المتطرفة في الغرب والترامبية Trumpism وتصاعد الخطاب الشعبوي كلها مظاهر لتيار اليمين المتطرف الذي ذهب بعيداً في مواجهته مع الليبرالية التقدمية الجديدة حتى باتت المعركة بينهما معركة مصير. لقد أصبحت الحرب الثقافية جزءً مهماً من المعارك الأنتخابية الأخيرة التي جرت في أمريكا وأوربا وحتى في تركيا.وقد وصل الأمر الى أن فضلت شرائح واسعة في تلك المجتمعات القادة المحافظين أو الليبراليين برغم أدائهم الأقتصادي السيء.
نجم عن هذه الحرب الثقافية أستقطاب مجتمعي شديد كانت الغلبة فيه للأصوات العالية والمنّظّمة والممولة جيدا من طرفي الليبرالية المتطرفة واليمين المتطرف،وأختفت في حومة هذه الحرب كثير من الأصوات الوسطية والمعتدلة لأفتقارها للتنظيم والصخب الذي يتمتع به طرفي مقياس التشدد-المرونة الأجتماعية. لاحظ مثلا،وضمن أطار الليبرالية المتطرفة لم يكتفي مناصرو مجتمع الميم (LGBTI) بما حققوه من تطور كبير في فهم المجتمع لوضعهم حتى باتت أستخدام مصطلح الشذوذ الجنسي منقرضاً فاسحاً المجال لمصطلح المثلية بدلا عنه،فراحوا يزيدون من ضغطهم على المجتمع ومؤسساته كي يتم نسف كل معايير الثقافة الأجتماعية السابقة وأستبدالها بمعايير جديدة.
فمثلاً تصر كثير من المدارس في المانيا على تعليم الأطفال في سن مبكرة جداً أن هناك ثلاث أجناس للبشر وليس جنسين فقط.ولا أعلم كيف يمكن أن يكن هناك جنس لا يتوالد ولا يتكاثر وما هو مستقبل هذا الجنس الذي يمكن أن يختاره الطفل.
لا بل هناك مدارس ترفض أستخدام مصطلحات لغوية تشير الى جنس المذكر والمؤنث فقط وتعدها تفريط بحقوق الجنس الثالث الذي يشمل مجتمع الميم. لاحظ أيضاً التوسع في مفهوم مجتمع الميم ليشمل ليس المثليين فقط وأنما من يحملون صفات جنسية مزدوجة أو من تغير جنسهم. أن هذا التوسع في المصطلح يجعل الكل في سلة واحدة،وكأنما يراد القول أن هؤلاء خُلقوا هكذا وبالتالي فهو ليس خياراً أختاروه نتيجة ظروفهم زخبراتهم الأجتماعية والنفسية.
وأنا هنا لا أناقش مدى صحة أو خطأ المفهوم لكني أناقش أنعكاساته.فايروس معدفي المقابل لم يكتفي الرافضون للمثلية بنقدها والتحذير من خطرها،بل ذهبوا بعيداً في رفض تواجد المثليين في مجتمعاتهم بل وفي أضطهادهم ومعاملتهم بدونية شديدة وكأنهم يحملون فيروساً معدياً. وفي الوقت الذي بالغ فيه أنصار (الميم) بنقل معركتهم من المستوى الفردي-النفسي الى المستوى الأجتماعي،فأن أنصار اليمين المتطرف أصيبوا بما يسمى برهاب المثلية Homophobia فبالغوا في تقدير الآثار الأجتماعية للمثلية وعجزوا عن فهم جذورها النفسية.وعلى الرغم من عدم تأكدي مدى وكيف ستحسم المعركة بين الطرفين الا أني متأكد أنه يجب بروز تيار ثالث وسطي يتجنب الأفراط أو التفريط ويحاول أن يلعب دور الوسيط بين الطرفين الآخرين.
علينا أولاً تفكيك الظاهرة ثم التعامل معها علمياً وثقافياً بعيداً عن الرهاب وبعيداً عن فرض الأرادات وبما يتناسب وثقافتنا من جهة ومع التغيرات الحاصلة عالمياً من جهة أخرى. لقد بتنا ا نعيش عصر التطرف في السياسة والأجتماع والأقتصاد،حتى صرنا قريبين من أعادة صياغة مفاهيم الطبقات كما عهدناها بعد تآكل الطبقة الوسطى في الأقتصاد،وأنخفاض دورها في الحراك الأجتماعي والثقافي بل وحتى الديني. هذا التآكل في الوسطية هو برأيي الحرب الثقافية الحقيقية التي تواجهها الأنسانية عموماً،ونواجهها في العراق حالياً. التطرف في الرأي وفي ردود الأفعال وفي قبول الآخر وفي كثير من مناحي الحياة بات السمة المميزة لمجتمعنا وآن الأوان لتأشير المشكلة ومعالجتها.