المئوية والشعار الوهمي.. الدولة واللادولة
د. فاتح عبدالسلام
جرى في المنطقة الخضراء ببغداد، الاحتفال الرسمي الرمزي بذكرى مئوية تأسيس الدولة العراقية ، ناقصاً منها أربع وثلاثون سنة، وهناك من يطرح من عمرها سنوات حكم عبدالكريم قاسم أو سنة ٣٦٩١، ومنهم مَن يقتطع سنوات ملكية كاملة كانت في عهدة نوري السعيد، لأنه غير راض عنها، ولا أدري كم يمكن ان تكون حصيلة السنوات الباقية المؤهلة لشمولها بالاحتفال. أمام ذلك كله، يرى الرائي مشهداً يشف من خلف هذه الصورة المئوية الرمزية لا يمكن أن يغفله أحد، إذ يظهر فيه جلياً مَن يحمل معولاً يهدم فيه الدولة سنة بعد آخر بلا كلل ولا ملل ولا تراجع، وآخر يغرّد بنفس الحماس من أجل بنائها، لكن من دون أن يفعل شيئاً. هذه المناسبة ليست حدثاً عابراً أو مخجلاً نستحي منه ولا نريد توسيع المشاركة أو الحضور فيه، كما جرى في جزء واحد منفصل عن بغداد تتركز فيه السلطة. هي مناسبة لكي يظهر فيها الشعب العراقي كله، بما فيه الإقليم الكردي، الاهتمام بمفهوم الدولة ووجودها ومنجزاتها في مائة عام ، فالشعب الذي مرّت عليه هذه العقود العشرة بكل ما تحمله من مآس ومعاناة وحروب داخلية وعالمية وجوع واحتلال وخيانات واغتيالات وهجرات وفساد، هو المعني الأول والوحيد لكي يفصح عن وجهة نظره في المئوية، ذلك انه وحده سيعبر للدخول الى المئوية الثانية، وعليه معرفة أن يختار طريق العبور بنفسه لا بحسب رؤى واملاءات وانتقاءات سياسية، قد لا يكون له وجود او تأثير بعد عشرين او أربعين عاماً، وستضطر البلاد لحذفها مجدداً ، لأنه جرى تأسيس ثقافة الإلغاء والاقصاء كأساس ثابت من ثوابت الوجود . هذه مناسبة فوق الخاصّة، يقف فيها الزمن في رؤوس أربعين مليونا ليعاينوه بكل امانة وشفافية، ولهم ان يفتحوا مضايفهم وبيوتهم وساحات وقاعات احتفالاتهم الاجتماعية والعامة وجامعاتهم ومدارسهم ودواوين شيوخهم وقبائلهم في اريافهم ومدنهم، وقبل ذلك أن يفتحوا قلوبهم، في التعبير عن الاحتفال بقرن من عمر هذه البلاد في دولتها الحديثة. لكن كل ذلك لم يحدث، وبقيت المناسبة معزولة في ثلاث قاعات وبين نفرات قلة في المنطقة المحمية. هل اظهر دعاة الانتصار للدولة على اللادولة اخلاصاً للشعار المنطوق بألسنتهم فقاموا باتخاذ قرارات جريئة تنتصر لفكرة الدولة الواحدة المعنية بتضميد جراحها بنفسها، ليفتحوا السجون ويخرج الأبرياء الذين غيبهم المخبرون السريون الزناة بأعراض الدولة وشعاراتها الوطنية. أليست هي مناسبة مستحقة لإصدار العفو العام عن جميع مَن دخل السجن بجريرة رأيه السياسي او انتمائه للحقبة السابقة التي انتهت وحوكمت وعوقبت ولابدّ من طيّها للأبد، لتكون هناك صفحة واحدة في الأقل بيضاء غير ملطخة بما اقترفته الايدي السياسية الآثمة طول ما يقرب من عقدين. أليست الدولة بحاجة لقرارات اثبات حسن نيات شعاراتها ضد اللادولة، المزعومة، في الكشف عن مصائر المغيبين والمختطفين بعد معارك تحرير مدن ثلث العراق، حتى لو كانوا جثثاً، لأنّ لهم حقوقاً شرعية وعرفية وامتدادات عائلية وعشائرية، وهنا مكمن عدم الثقة بالدولة، وعدم شعور المواطن بالفرق بينها وبين اللادولة التي باتت شعاراً لتبييض وجوه سياسية ضد وجوه أخرى. ليسقط هذا الشعار الاستهلاكي الرخيص والوهمي والمخادع في انتصار الدولة على اللادولة، فمجرد ان نذكره يعني أنّ الدولة لا تستحق ان تحمل هذا الاسم لأنها تتقاسم الشراكات، طوعاً او كرهاً، مع اللادولة، إن لم يكونا في الأصل والفصل، جسماً واحداً. وهذا غير موجود في أيّ بلد بالعالم له سيادة وعلم في الأمم المتحدة. بمَن تتأسّون وبمَن تقتدون؟ ليتكم تتأسون بالمنهج الإيراني في الحكم لكي تبنوا الدولة، وها نحن نراهم يستعرضون الحقبة التي حكم بها شاه ايران بكل أوسمتها وسياراتها التاريخية المهداة من زعماء العالم، وأولهم الزعيم النازي أدولف هتلر الى محمد رضا بهلوي أو ذويه، في معرض للزوار في قلب طهران، للتباهي بجزء من زمن البلاد، من دون يخجلوا من حقبة مرت في التاريخ الفارسي، ولن يتخلوا عنها ، لأنّ بلادهم موحدة أرضاً وتاريخاً بالفعل، وليس بالكلام .