اللا دولة
محمد عبد الجبار الشبوط
يتداول بعض الناس هذه الايام مصطلح “اللادولة”، ويطالبون في قباله بمصطلح “الدولة”. والامر بهذا المستوى صحيح، حيث تضخمت وتزايدت مظاهر اللادولة، او غياب الدولة. وبالرجوع الى المفكر الانگليزي هوبز سوف نلاحظ ان الدولة ظاهرة مدنية/ حضارية نشأت كثمرة لخروج البشرية من حالتها البدائية، يوم كان الانسان يعيش في الكهوف او الغابات، ويقتات على ما يجمعه او يصطاده من غداء من نبات او حيوان. وفي ذلك العصر لم تكن الدولة موجودة، حيث لم يكتشف الانسان الزراعة، ولم يستوطن في بقعة ارض بصورة دائمية، ولا ملكية خاصة ولا سلطة سياسية. وحين يتراجع مجتمع عن خط سيره الحضاري ويتقهقر صوب حالة اللادولة، فهذا يعني انه نزل او سقط من قطار الحضارة، وعاد الى الكهوف او الغابات، حيث تكون القوة المسلحة هي القانون، ويقتتل الجميع فيما بينهم.وحينما نصف الحالة في العراق اليوم بانها حالة اللادولة، فهذا يعني ان “الدولة” التي اقيمت عام ١٩٢١ قد تفككت وتحلل امرها بعبارة ابن خلدون، وعدنا الى الحالة البدائية التي تسبق قيام الدولة. وبالتالي فان الدعوة الى العودة الى الدولة دعوة صحيحة، لكنها تمثل مستوى اول من الوعي السياسي، وهو مستوى لا يكفي ولابد من الانتقال الى المستوى الثاني من الوعي، وهو الدولة الحضارية الحديثة. فالدولة البديلة عن حالة اللا دولة قد تكون دولة سلطانية، او استبدادية، او متخلفة، او دولة عاجزة عن اداء وظائفها، كما كان الحال في الدولة العباسية في العراق والاقاليم التابعة له انذاك في عصورها المتأخرة. فمشكلتنا ليست محصورة في غياب الدولة، وانما في غياب الدولة القادرة على اداء وظائفها، وحماية مواطنيها، وتحقق لهم العدالة والحرية والمساواة والامن والكرامة والخدمات والسعادة.ولهذا وجدنا الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر لم يقصر مطالبته في بياناته الثلاثة التي وجهها الى العراقيين في تموز عام ١٩٧٩على اقامة دولة ما، وانما طالب بدولة ذات خصائص معروفة مسبقا لديه، واستخدم تعابير تدل على هذه الخصائص مثل “كرامة الانسان”. وحق الشعب “في تسيير شؤون البلاد” (نظام ديمقراطي)، “وتوفير حكم صالح فذٍّ شريف”، يفتح “أبواب التقدّم”، وبناء عراق حرّ كريم تغمره عدالة الإسلام وتسوده كرامة الإنسان، ويشعر فيه المواطنون جميعاً – على اختلاف قوميّاتهم ومذاهبهم – بأنّهم إخوة، يساهمون جميعاً في قيادة بلدهم وبناء وطنهم”.وهذه كلها بعض من خصائص الدولة الحضارية الحديثة. وبذا يتحقق المستوى الثاني من الوعي السياسي. ان المشكلة لا تكمن فقط في حالة اللادولة، وانما في غياب الدولة الحضارية الحديثة. وتقوم هذه الدولة على اسس المواطنة والديمقراطية والقانون والمؤسسات والعلم الحديث. وهذه اسس غير موجودة في حالة اللادولة القائمة على اساس المحاصصة والمكونات والزبائنية والفساد والكواليس وغياب سلطة القانون، وهي باختصار الحالة المسماة kleptocracy، اي سلطة السراق والحرامية.لهذا يساورني الشك و”سوء الظن” من الحديث عن حالة اللادولة مجردا ودون الارتباط بالمستوى الثاني من الوعي وهو الدعوة الى الدولة الحضارية الحديثة. ذلك ان المشكلات التي يعاني منها العراق، وهي مشكلات حادة لا يمكن حلها باي نوع من الدول، انما يجب ان تكون الدولة البديلة لحالة اللادولة حضارية وحديثة. فهذه الدولة وحدها هي القادرة على القضاء على التخلف و الفساد وتردي نوعية ومستوى الحياة والاقتصاد الريعي الاستهلاكي والسلاح المنفلت والنظام التربوي المتخلف والتقاليد والاعراف المعيقة للتقدم والفقر والمرض وانعدام الانتاجية والبطالة والبطالة المقنعة وكل الظواهر السلبية التي يعاني منها العراقيون الان. لا نريد اطالة امد المعاناة بالتوقف عند المستوى الاول من الوعي السياسي.