الكاظمي والحوار الممنوع
الكاظمي والحوار الممنوعد. ماجد السامرائي
دعوة الكاظمي للحوار لا علاقة لها بملف ما يعرف بالحوار والمصالحة الوطنية. دعوته هي جزء من محاولاته استثمار زيارة بابا الفاتيكان لصالح مشروعه السياسي المتواضع.دعوات للحوار لا تلقى أصداءكلمة الحوار تبدو براقة في دلالاتها السياسية حين تصبح نهاية للصراعات والحروب والأزمات. رغم أنها غالباً ما تكون إملاءات المنتصر القوي وإذعان المهزوم، قد تكون منقذاً من التعب والعجز عن فرض الأمر الواقع لطرفي النزاع. لكنها في حلقات تاريخية من حياة الشعوب عبرت عن خلاص حقيقي من العنف والصراعات والأحقاد والكراهية.يحدث ذلك حين يتوفر قادة سياسيون مخلصون لأوطانهم يجعلون من الحوار والمصالحة نهاية مراحل عصيبة من الحروب والصراعات، مثلما حصل في أميركا اللاتينية والهند ورواندا وجنوب أفريقيا، التي شكلّ مثالها نيلسون مانديلا عنواناً خالداً لصفحة مهمة في التاريخ الإنساني، وطي صفحة من القتل والتمييز بحق أهل البلد السود، وبداية عهد الحوار الوطني الداخلي بلا عقد وأحقاد وكراهية. مانديلا قال عبارتين شهيرتين “نحن نغفر لكننا لا ننسى” و”الشجعان لا يخافون التسامح”، ليلتقي الضحايا والجناة وجهاً لوجه لتضميد جراح الماضي والمضي قدمًا لبناء جنوب أفريقيا.رواندا مثال آخر لما يحققه التسامح من نتائج حيث كانت ضحية حرب أهلية راح ضحيتها 800 ألف قتيل في مئة يوم فقط (عام 1994). صنعت المستحيل واستردت عافيتها بالتسامح وإعلاء ثقافة الاعتراف بالتعددية، وصارت أنموذجاً حضارياً رائعاً في القارة الأفريقية ومركزاً اقتصادياً وتكنولوجياً في المنطقة، وتمكنت من جذب أكثر من مليون سائح عام 2014. وما كان هذا العدد ليتوافد على رواندا لولا انتشار الأمن والسلام ومظاهر الجمال في كل ربوعها حتى أن عاصمتها كيغالي اختيرت في 2015 كأجمل مدينة أفريقية.أمثلة كثيرة لأثر قيم المصالحة والتسامح في حياة الشعوب، يحتاج دعاة الإسلام السياسي الشيعي الحاكم بالعراق الاستماع إلى دروسها، لو كان لديهم مثقال ذرة من الحرص على بناء الوطن، وليس تخريبه وتدميره ونهب ثرواته. في هذا البلد لم تقع حروب أهلية بين الطوائف والأعراق قبل عام 2003، بل كانت معارضة لنظام حكم تزعمها قادة شيعة لظلمٍ لحقهم وأسرهم، دخلت عليها إيران الخميني ووظفتها لإشعال حرب بين البلدين استمرت ثماني سنوات وذهب ضحيتها أكثر من مليوني عراقي وإيراني.لو توفر للزعامات الشيعية الحد الأدنى من حب العراق، لكانت أمامها فرصة تاريخية لبداية عهد من التسامح ونبذ الكراهية والتوجه للبناء والتنمية، حيث تتوفر الإمكانيات المادية والبشرية. لكنها بدلاً عن ذلك أدخلت العراق في دروب الكراهية واستحضار التطرّف المذهبي والشحن الطائفي، لتبرير القتل والتغييب وتنفيذ مشاريع التغيير الديمغرافي في المدن العربية السنية، فيما استفردت هي بنهب الأموال.منذ البداية استخف الحكام الجدد بعناوين المصالحة والحوار بينهم وبين الذين رفضوا الاحتلال الأميركي عسكرياً ثم سياسياً؛ توفرت فرص من بينها مبادرة الجامعة العربية عام 2005 في شرم الشيخ، لكن الحكام تهربوا منها لأنهم اعتمدوا على قوى خارجية لتثبيت سلطتهم، ثم سخروا من عنوان المصالحة والحوار بأن شكلوا مؤسسات رسمية تابعة لمجلس الوزراء لمصالحة لا وجود لها، كانت ميداناً للسرقة والنهب والسفرات السياحية.الزعامات الشيعية لو توفر لها الحد الأدنى من حب العراق لكانت أمامها فرصة تاريخية لبداية عهد من التسامح ونبذ العنف، لكنها بدلاً من ذلك أدخلت العراق في دروب الكراهية واستحضار التطرّفدعوة الكاظمي للحوار لا علاقة لها بملف ما يعرف بالحوار والمصالحة الوطنية. دعوته هي جزء من محاولاته استثمار زيارة بابا الفاتيكان لصالح مشروعه السياسي المتواضع، فأطلق دعوته للحوار بين الحكومة وأحزابها وممثلي ثورة أكتوبر (تشرين). وهو لا يقصد الحوار مع المعارضين للنظام السياسي القائم، وهم كثر في مختلف الاتجاهات الوطنية. لأن ذلك ممنوع، فيتم تشتيت انتباه الرأي العام إلى أن المعارضين هم البعثيون “المُجتثون” ومعهم الإرهابيون.إن قصد الكاظمي من دعوته إجراء حوار بين سلطة الأحزاب وشباب ثورة أكتوبر فلن تلقى هذه الدعوة قبولاً من أبناء الثورة أنفسهم، حيث سارع بعض ممثليهم إلى رفضها قبل أن يتم إلقاء القبض على قتلة شهدائهم ومحاكمتهم. كما لن يقبل من وصفوا ثوار أكتوبر بـ”عملاء السفارات والجوكرية” الحوار معهم، لقد استهزأوا بهم في تصريحاتهم وبياناتهم، فكيف يتحاورون معهم؟أطراف الحكم الرئيسيون ومراكز القوة المعروفة تعاطوا مع دعوة الكاظمي بما يخدم برنامجهم في الحفاظ على مكتسباتهم وفوزهم في الانتخابات المقبلة. بعضهم اشترط الإشراف الأممي وإبعاد “البعثيين والإرهابيين” عن الحوار، والبعض الآخر سارع إلى التأييد في إطار صفقة تعاون مع الكاظمي في الانتخابات المقبلة. أما ممثلو الميليشيات الولائية الداعين الى إسقاط حكومة الكاظمي فقد رفضوا الدعوة.الأحزاب الشيعية الحاكمة تستخف بجميع عناوين الحوار والمصالحة وتعتبرها فرصة للبعثيين الذين مزقهم وشرّد أسرهم قانون الاجتثاث ليعودوا إلى السلطة، حيث تتم الدعوة إلى تجديد هذا القانون لحرمان مئات الألوف من الأسر العراقية من مصدر رزقها في الحق التقاعدي. ورغم علمهم أن فرضية عودة البعثيين إلى السلطة غير حقيقية، لكن نظرية المؤامرة وصناعة العدو تبقى حاضرة لتبرير سياسات الشحن والاحتراب الطائفي وتعزيز سياسة الاستفراد بالحكم تحت الشعار المشهور لأبرز قادتهم “ما ننطيها”.هناك مأزق جدّي تعيشه الأحزاب الحاكمة في صراع المغانم والبحث عن وسائل لتشتيت ثورة الشباب، ومنع بعض ممثليها من الوصول إلى البرلمان. والأخطر هو تنامي قوة الميليشيات المسلحة خاصة الموالية لطهران واستعداداتها لدخول البرلمان المقبل بقوة.مصطفى الكاظمي يعرف هذه الحقائق ويحاول الدخول من ثغرات الأحزاب الكبيرة ونقاط ضعفها ليصبح له دور سياسي مقبل، لهذا يدعو إلى التفاهم والحوار في ما بينهم.بدلاً عن مثل هذه الدعوات الإعلامية كان بإمكانه منذ وصوله إلى المسؤولية قبل عشرة أشهر أن يتحول إلى منقذ حقيقي للبلاد في اتخاذ إجراءات جادة بحصر السلاح بيد الحكومة، ووضع التدابير العملية الصارمة لإنهاء أو تقليص هيمنة الميليشيات على المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية، وسحب المصالح الاقتصادية خصوصا النفطية جنوب البلاد منهم، وإبعادهم عن المدن، وإعلان أسماء قتلة ثوار أكتوبر، وكشف الذين خططوا لموسم جديد من عمليات القتل والاختطاف، وأبرزها جريمة قتل والد الناشط علي جاسب في مدينة العمارة، وقتل عائلة من ثمانية أشخاص في منطقة “بودور” جنوبي تكريت، والترويج لموديل الأجهزة الأمنية الجديد غير المقنع بأن الدوافع شخصية وعشائرية، والتي تكذّبها تعقيبات ذوي المغدورين.إذا كان الكاظمي يسعى إلى تهدئة نفوس أطراف شركاء النهب ليصبح له دور جديد بينهم، عليه عدم التورط بإدخال شعارات الحوار والمصالحة التي لا مكان لها في الظروف الحالية. لديه إمكانيات منصب القائد العام للقوات المسلحة يستطيع استثماره لفرض قرارات إشاعة الأمن في البلاد رغم صعوبة تنفيذها لما وصلت إليه حالة تسيّد الميليشيات من إمكانيات وهيمنة شاملة على مرافق الأجهزة العسكرية والأمنية. وهو يعلم أن الصراع بين تلك الأطراف سيزداد مع قرب موعد الانتخابات، وقد يتحول إلى صراع دموي يُستحضر للتغطية عليه شبح العدو الجاهز والمُستهلَك الذي تمزقت ورقته، رغم ثمن الدماء الغالي الذي يدفعه المواطنون الأبرياء.