الكاظمي بديلا لعبد المهدي
الكاتب : حسن فحص
حدثني أحد أعضاء الوفد الإيراني الذي زار العاصمة العراقية بغداد في صيف 2014 برفقة أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الأدميرال علي شمخاني، أنه وفي الاجتماع الذي جرى بينه وبين رئيس الوزراء العراقي حينذاك نوري المالكي، أُبلغ المالكي بموقف طهران الصريح والواضح بأن المرحلة الحالية لا مكان له فيها، وأن التطورات تفرض على المؤثرين بالساحة العراقية الاتفاق على شخصية جديدة تتولى قيادة المرحلة المقبلة، وما فيها من تعقيدات، خصوصاً ما يتعلق بالحرب ضد تنظيم “داعش” الإرهابي، الذي استطاع السيطرة على نحو ثلث مساحة العراق بعد سقوط مدينة الموصل، ومحافظة نينوى في يونيو (حزيران) من ذلك العام.
التحرك الإيراني حينها باتجاه البحث عن بديل للمالكي، جاء نتيجة لوصول الضغوط التي مارسها الأخير إلى طريق مسدود في فرض عودته إلى موقع رئاسة الوزراء، على الرغم من تقدم كتلته “دولة القانون” في نتائج الانتخابات البرلمانية، فضلاً عن حالة الانقسام التي برزت داخل “البيت الشيعي”، ورفض أقطاب من داخل هذا البيت فكرة تولي المالكي لولاية ثالثة، خصوصاً مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري الذي كان المتحكم في مزاج الشارع الشعبي، والقادر على تحريكه بالاتجاهات التي يريدها، وقد فعل حينها رفضاً لعودة المالكي، إضافة إلى تردد القوى الكردية في تبني عودة المالكي إلى درجة أوحت برفضهم لهذا الأمر، في حين كان موقف القوى السنية أكثر وضوحاً، بخاصة بعد تحميله مسؤولية انهيار القوات المسلحة ما سهل لتنظيم “داعش” عملية السيطرة واحتلال المحافظات السنية.
ذن، شكلت زيارة الوفد الإيراني برئاسة شمخاني في تلك السنة، الخطوة الجدية الإيرانية، وبعد سلسلة من الحوارات والتفاهمات مع اللاعب الأميركي، لوضع حد لطموحات المالكي والانتقال للبحث عن بديل جديد يكون حلاً وسطاً بين القوى والمكونات السياسية العراقية، وفي الوقت نفسه لا يشكل تحدياً للمالكي، لجهة أنه المطالب أكثر من غيره بالتخلي عن أفضليته في الترشح دستورياً وقانونياً، فكان الاتفاق أن يكلف النائب الأول لرئيس البرلمان حينها حيدر العبادي عن كتلة “دولة القانون” وحزب “الدعوة” مهمة تشكيل الحكومة الإنقاذية التي ستتولى مهمة التصدي لـ “داعش”، وإعادة ترميم المؤسسة العسكرية وإدارات الدولة ومؤسساتها على نصاب وطني يعتمد الكفاءة خارج سياسة المحاصصات والمصالح الحزبية، وهو ما نجح به العبادي إلى حد كبير في ظل عراقيل كثيرة زرعتها الأحزاب والقوى التي اعتادت على تقاسم السلطة. وعلى الرغم من الجهد الحربي الكبير الذي فرضته المعركة مع الإرهاب الـ “داعشي”، لكنه استطاع إعادة بناء المؤسسة العسكرية خصوصاً الجيش على نصاب وطني واضح وعقيدة قتالية دفاعية، تعمل للحفاظ على وحدة الأراضي والدولة العراقية بحدودها الحالية، وعدم تحويل العراق إلى منصة لحروب الآخرين على أرضه، من خلال تعزيز مساحة التوازن والانفتاح على المحيط الإقليمي العربي وغير العربي والمجتمع الدولي بكل تنوعاته.
دخول شمخاني على خط الأزمة العراقية من جديد، وبما يمثله من موقع ودور، يعني أن النظام الإيراني وصل إلى قناعة بأن الأمور بدأت تخرج عن السيطرة، وبات عليه التدخل من خارج الأطر الدبلوماسية والأمنية التي كانت متبعة في المرحلة السابقة، أي أن النظام قرر عدم إعطاء الخارجية التي تعتبر جزءاً من إدارة الرئيس حسن روحاني، دوراً في تفكيك العقد العراقية والبحث عن حلول، خوفاً من أن تضع دبلوماسية ظريف أمام حقائق لا يرغب فيها من جهة، والعمل على ترميم الهفوات التي نتجت من الأسلوب الأمني الذي كان متبعاً عندما كان يتولى الجنرال قاسم سليماني مسؤولية الملف العراقي من جهة أخرى. أي أن تدخل شمخاني حالياً يصب في الإطار نفسه الذي استدعى تدخله عام 2014، ولعل البعد الأساس فيه هو محاولة ترميم الدور الإيراني نتيجة الأخطاء التي ارتكبت في كلا الحقبتين، وكادت سابقاً أن تفجر البيت الشيعي، وحالياً لمنع انهياره بالكامل.
وإذا ما كان المسعى الأخير لسليماني على الساحة العراقية، وبحسب أحد المقربين منه، في الزيارة الأخيرة التي استهدف فيها، محاولة إقناع البيت الشيعي أولاً والقوى السياسية الأخرى – الكردية والسنية- بحسم الجدل حول رئاسة الحكومة وإعادة عادل عبد المهدي إلى موقعه، والعمل على تنفيس الاحتقان من خلال الاستجابة لمطالب الشارع الشعبي المتظاهر والمعترض بالذهاب إلى قانون انتخابات جديد، والدعوة إلى انتخابات مبكرة لإنتاج طبقة سياسية جديدة، فإن المطلب الأول على أجندة شمخاني في زيارته الجديدة لبغداد كان البحث مع القوى العراقية في إمكانية تجديد الثقة بعبد المهدي وحكومته، ومحاولة تجاوز العقبة الأساسية على هذا الطريق المتمثل بالموقف الواضح الذي صدر عن المرجعية العليا في النجف، والذي سحب الغطاء عن عبد المهدي، وهو ما يبدو صعباً لناحية عدم وجود سابقة لدى المرجعية في هذا الاطار، إضافة إلى أن ما تطلبه هذه الخطوة من المرجعية هو موقف واضح وصريح من هذه العودة في حال رأت المصلحة في ذلك، وهو ما لم تفعله على مدى السنوات الماضية وما يعنيه ذلك من تورطها المباشر في الشأن السياسي والابتعاد عن الدور الرعائي والتوجيهي الذي التزمت به، وجعل موقفها مؤثراً في اللحظات المفصلية. وعليه فإن رهان شمخاني على إحداث تعديل في موقف المرجعية الذي دعت فيه الحكومة للاستقالة يبدو في غير مكانه، وهو سيحاول لعب هذه الورقة قبل أن يكشف أوراقه الأخرى التي تداول حولها مع القوى السياسية في بغداد.
ويبدو أن الخيارات أمام اللاعب الإيراني بدأت تضيق، فبغض النظر عن الرأي المؤثر للشارع وساحات الاعتراض، فإن الحديث عن بعض الأسماء المرشحة للمرحلة الانتقالية تبدو أكثر قرباً من تطلعات القوى المطالبة بالتغيير. واذا ما تم إخراج اسم رئيس الوزراء السابق العبادي من دائرة الأسماء المطروحة ليس رفضاً له، بل إنصافاً لموقعه، وضرورة أن لا تكون عودته انتقالية، على الرغم من أن الكثيرين ممن انتقد تجربته بدأ يتلو فعل الندامة وينحو إلى إنصاف هذه المرحلة وقدرات هذا الرجل على تدوير الزوايا، والعمل على إعادة بناء حقيقية لمؤسسات الدولة والجيش، ورسم حدود الموقف والدور العراقي أمام التدخلات الخارجية من منطلق السعي إلى تكريس الحياد في الصراعات القائمة في المنطقة، فإن الدفع باسم رئيس جهاز الاستخبارات مصطفى الكاظمي قد يشكل مدخلاً جدياً لخروج العراق من أزمته، ويفتح الطريق أمام بلورة وترجمة التسوية بين الأميركي والإيراني من دون استبعاد اللاعب العربي على الساحة العراقية.
فاللقاء الذي جمع شمخاني والكاظمي، لم يكن ليحدث لو لم يكن الأخير قد تحول إلى أحد الخيارات كبديل عن عبد المهدي وكل الأسماء المطروحة لرئاسة الوزراء، فالجهات المعنية بالشأن العراقي في النظام لم تسقط هذا الخيار من حساباته حتى قبل حسم موقفها لصالح عبد المهدي قبل حوالى سنتين، وتعتقد أنه في هذه المرحلة والتعقيدات التي تشهدها، خصوصاً في ما يتعلق بمواقف المكونات السياسية والحزبية والمذهبية والقومية، التي رفعت مستوى التحدي أمام اللاعب الإيراني، وبات عليه الاعتراف بأنه غير قادر على التفرد في تحديد مسارات الحل وإيصال من يريد إلى مواقع القرار، لذلك فإن خيار الكاظمي قد يشكل خطوة باتجاه توجيه رسالة جدية للإدارة الأميركية ودول الجوار العربي برغبة طهران في التوصل إلى تفاهمات تساعد على تخفيف حدة المواجهة والتوتر السياسي، من دون أن تتخلى عن ورقة الرد على اغتيال سليماني بالعمل على إخراج القوات الأميركية من منطقة غرب آسيا. وحتى اعتماد خيار الكاظمي يفتح الباب أمام تسويات داخلية تدفع القوى المتحكمة بالقرار السياسي وحتى ساحات الاعتراض للتعاون من أجل إنجاح هذه التجربة في حدود المرحلة الانتقالية، خصوصاً أن الكاظمي يمتلك شبكة اتصالات ومروحة علاقات عربية وعراقية داخلية، لا سيما مع المكون الكردي وقبولاً عالياً من قبل ساحات الاعتراض، تساعد على وضع الأزمة العراقية على طريق الحل والخروج من النفق الذي وصلت إليه.
فهل سيعمل شمخاني إلى الدفع باتجاه تبني طهران مخارج جديدة تبتعد عن الخيارات التي سبق أن اعتمدتها؟ أو تطالب الفصائل والقوى الموالية لها اعتمادها كمرشحين لرئاسة الوزراء أو حتى خيار العودة إلى إبقاء عبد المهدي، بالتالي يؤسس لمرحلة جديدة من التعاطي الأكثر عقلانية للاعب الإيراني مع الساحة العراقية. فحجم التحديات التي يواجهها الإيراني في الإقليم باتت كبيرة ومتشعبة، ولا بد له من الانتقال إلى حسم موقفه في هذه الملفات واحداً تلو الآخر حتى لا يجد نفسه مجبراً على التعامل معها دفعة واحدة، وينطبق عليه ما قالت العرب ماضياً “اتسع الفتق على الراتق”.