الكاظمي المغلوب على أمره
ماجد السامرائي
الكاظمي المغلوب على أمره لقاء جو بايدن ومصطفى الكاظمي في البيت الأبيض يكشف أن كليهما يحمل ازدواجية المواقف والقرارات.لقاء ينهي حلم الكاظمي بالبقاء في السلطةحرص رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي على ترك رسالته للميليشيات والنظام الإيراني على أرض مطار بغداد، قبل مغادرته للقاء الرئيس الأميركي جو بايدن في واشنطن، بأنه ذاهب ليطلب جدولة انسحاب القوات الأميركية من العراق، وتحويل مهمات من يتبقى منهم إلى أغراض استخبارية واستشارية.تلك الرسالة لم تكن مقنعة لولي الأمر علي خامنئي، فهو يمقت لجوء بعض أتباعه ومريديه، وغالبهم غير صادق في ذلك الولاء الغامض وعدم الجرأة في التصرف “العقائدي”، خاصة بين أصناف من خرجوا من العباءة الشيعية المذهبية، إلى فضاء ليبرالي، مثل روّاد كثر من المعارضين السابقين، نذكر منهم أحمد الجلبي الذي أوهم الأميركان بليبراليته، ثم اضطر لإعلان ولائه لإيران فأعلن “البيت الشيعي”، وآخر تلاميذه مصطفى الكاظمي يسير على ذات الطريق.واحدة من المشكلات البنيوية في الحالة العراقية هي أن من يتولى الحكم، من أكبر مسؤول إلى أصغر موظف مؤدلج، يحمل اسم العراق بمكانته الجيوسياسية وعمقه الحضاري وتأثيره الاستراتيجي في المنطقة، فيُرغَم المتلقون، دول وساسة ومثقفون وناشطون، على التعامل مع حاملي مكانة تلك الهوية المصطنعين. رغم إن الثورة الشبابية العراقية في السنوات الأخيرة قد فككت هذا الالتباس والزيف بكل جوانبه ومظاهره.حمل الكاظمي معه في سفرته إلى البيت الأبيض عراقاً ضعيفاً مفككاً، تسيطر عليه الميليشيات بسلاحها الذي أصبح متنوعاً، من الدرونز حتى البندقية، غير قادر على ضبطها. وإن حاول يحاصر في مكتبه بالمنطقة الخضراء. عراق رغم موارده النفطية العالية لا تسد عائداته الرواتب والديون، وغارق في الفساد والأمية والبطالة. لن تتمكن كلمات الكاظمي المحفوظة، مهما تفنن في إخراجها أمام بايدن، من سد الخرق الكبير وحافية الهاوية التي وصل إليها، والتي لم يعد سببها غامضاً لرجل الشارع في بغداد والناصرية وكربلاء والبصرة.واشنطن كانت تنتظر من الكاظمي أن يكون جريئاً ينقل بصدق هموم شعبه وأن يطلب العون وتلك ليست عمالة مثلما يروّج العملاء الحقيقيون بل هي صرخة نجدة يطلقها عراقي لمصلحة بلدهالكاظمي يعلم في قراره أنه جاء إلى البيت الأبيض لا يحمل مطلباً عراقياً، بل يحمل مطلبا نيابة عن بلد جار عبث نظامه ببلده العراق وأشاع الفوضى عبر وكلاء يقبضون أجورهم من قوت شعب العراق، وليس من المستفيد الأول. مطالب العراقيين الحقيقية هي الدفاع عن أمنهم وحياتهم من العابثين المغامرين. هم في صراع مع قوى تملك السلاح والنفوذ، ورئيس حكومتهم غير قادر على حمايتهم، لهذا من حقهم طلب العون من الخارج. كان الأولى بالكاظمي نقل هذه الرغبة العراقية وليس العكس.جاء الكاظمي إلى واشنطن وقابل الرئيس الأميركي بايدن الذي سبق أن تعامل مع الملف العراقي وعرف الجيل الأول من قادة الأحزاب، حين قدم أسوأ مشورة لأستاذه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. المشورة التي قادت إلى ارتماء العراق تحت النفوذ الإيراني.بايدن يعيش اليوم مأزق تلك السياسات التي ترتد على الولايات المتحدة وهو يريد عودتها إلى مكانتها الأولى في العالم، أولوية معركتها مع الصين. لكنه بدلا من ذلك يجد نفسه يدعم بلداً أيديولوجيا مثل إيران، الخصم الرئيسي للعالم الحر.التقى الكاظمي وبايدن في البيت الأبيض، وكلاهما يحمل ازدواجية المواقف والقرارات. قد يكون سهلاً على رئيس وزراء العراق ذلك، فقبله ذهب نوري المالكي الإسلامي الشيعي المتشدد حاملاً زهور العرفان والوفاء، وضعها على سفح مقابر الجنود الأميركان الذين قدموا دماءهم لكي يصل هو ورفاقه للحكم في بغداد، ليصبح من قادة دعاة إخراج الأميركان من العراق، لأن طهران أرادت ذلك.لم يكن بايدن يعبّر عن رغبة مؤسسته العسكرية والاستخباراتية في الخروج المهين من العراق، مثلما حصل في أفغانستان، حيث ينتظر العراق سيناريو مماثل. رغم ذلك هو الرئيس والمسؤول الأعلى أمام الكونغرس وليس أمام مؤسسات الدولة.الولايات المتحدة، الدولة العظمى في العالم، لا تحتاج إلى من يهديها إلى طريق مصالحها، فاستراتيجيتها هي الانسحاب العسكري من المنطقة والتفرّغ إلى الصين وشرق آسيا في مواجهة أشبه بحرب باردة جديدة. وكان الرئيس السابق دونالد ترامب أعلن إنهاء ما يسمى “الحروب التي لا نهاية لها”، فبدأ مشروع الانسحاب من أفغانستان، ويكمله الرئيس الحالي بايدن في سبتمبر المقبل. وسيتم إنجاز الانسحاب القتالي من العراق خلال عام.لا أحد يستمع للسيناريو المصنوع في إيران، وأبطاله جمع من الميليشيات تحت عنوان “المقاومة الإسلامية” وتحرير العراق من الاحتلال الأميركي، وفق “بروباغندا” سمجة لتغطية استمرار الميليشيات المسلحة بإرهاب العراقيين واتهام نشطائهم بالعمالة، وهم لا يعلنون ماذا سيفعلون إذا ما انسحبت القوات الأميركية من العراق.ببساطة، جاءت بعض القوات الأميركية تلبية لطلب عراقي، وفق أحد بنود اتفاقية الإطار الاستراتيجي لعام 2018، التي وقعها رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي. هناك مذكرة تنفيذية في البيت الأبيض يوقعها كل عام رئيس الولايات المتحدة تقول باستجابة واشنطن لأّيّ استغاثة عراقية تهدد نظامهم السياسي وأمنهم الداخلي، وقعها بايدن قبل شهرين. واشنطن تستجيب ببساطة لأيّ طلب حكومي عراقي بمغادرة هذه القوات الأراضي العراقية.لقاء البيت الأبيض مزّق أوراق الكاظمي وأنهى حلمه للبقاء في السلطة، لأن الحرائق تحيط به من كل زاوية، ولن يتمكن من الصمود بوجه مشعليها. كان عليه أن يظهر بمظهر رجل الدولة الشجاع الواضح المُعبّر عن مطالب شعبه بإنهاء هيمنة الميليشيات ووضع معادلة حقيقية لحماية الأمن الوطني العراقي. والولايات المتحدة برئيسها ومؤسساتها الكبرى أصبح لديها أرشيف كبير حول العراق. هي ليست الولايات المتحدة التي ذهبت إلى العراق بجيشها عام 2003 وهي لا تمتلك سوى معلومات سياحية حوله.كانت واشنطن تنتظر من القادم إليها أن يكون جريئاً غير خائف ممن حوله من المرافقين، وغالبهم منتسب للميليشيات وموال لطهران يسجل كل إيماءة منه لنقلها إلى مركز القرار، وأن ينقل بصدق هموم شعبه الحقيقية وما حصل له وما ستؤول إليه الأوضاع المقبلة وأن يطلب العون والدعم. وتلك ليست عمالة مثلما يروّج العملاء الحقيقيون، بل هي صرخة نجدة يطلقها عراقي لمصلحة بلده. لكنه صمت. فهل مطلوب من المسؤولين الأميركان أن يكونوا أكثر عراقية من العراقيين.شعب العراق، طيب النوايا، كان يتوقع من الكاظمي استثمار الفرصة التاريخية التي لا تتطلب مهارة سياسية، إن كان راغباً في تخليص العراق من محنته التي هي أكبر وأخطر من الاحتلال الداعشي، ويطلب من الرئيس بايدن، رئيس الدولة التي جاءت بهم إلى الحكم، أن تتحمل بلاده مسؤوليتها التاريخية تجاه شعب العراق، وينقل له حقيقة محنة العراق المختطف من إيران وميليشياتها. السبل لذلك بسيطة، من بينها تفعيل قرارات الكونغرس الأميركي عام 2020 بوضع قائمة من الميليشيات المتنفذة حالياً في العراق على قائمة الإرهاب. لكنه لم يفعل ذلك.الكاظمي فقد البوصلة بسبب الضغوط الشخصية المفروضة عليه من قبل الزعامات الميليشياوية، وقد صرّح بأنه تعرض لثلاث محاولات اغتيال، وهو يهرب إلى الإعلام معتقداً أن لقطات لقاءات تجمعه بأهالي المغدورين وتطييب خواطرهم بكلمات الرثاء ستداوي أزمته في الابتعاد عن القرار الجريء في مواجهة الميليشيات.الكاظمي يعتقد أنه بعد عودته إلى بغداد سيتخلص من المأزق الذي وضعته فيه الميليشيات، في السيناريو المصنوع في طهران تحت عنوان محاربة الاحتلال وإخراج القوات الأميركية. الميليشيات لن تقبل بأنصاف المطالب، أي بقاء القوات بعد تغيير عناوين وظائفها، وستظل المعركة حامية معه إلى حين انتهاء مسؤوليته كرئيس للحكومة أو إخراجه منها، إذا ما توقعنا عدم حصول الانتخابات في وقتها المحدد في أكتوبر المقبل.وضع الكاظمي والبلد في الأيام المقبلة خطر، والسبب الرئيس يتحمله الكاظمي نفسه، لأنه تاه في دروب لا علاقة لها بقيادة شعب العراق ونقله إلى ضفة الأمان.