الفقر والرعاية الصحية
مصطفى ملا هذال
يقبع الملايين من البشر تحت خط الفقر الذي يهاجم يوميا الانسان ويسبب له الكثير من الازعاج، كم نتضجور عندما يحل علينا ضيف ثقيل الظل؟، لا توجد بيننا كيمياء التواصل، ونفتقد لادنى درجات التفاهم معه في احسن الظروف.الفقر هو ذلك الضيف الذي يفرض نفسه رغم عنا في أحيان كثيرة، ففي الوقت الذي يتمتع فيه الملايين من الناس حول العالم بيسر اقتصادي ورخاء مالي، نتيجة افتتاح عدد من المشاريع الاقتصادية المربحة، يرافقها الانفتاح الاقتصادي والتكنولوجي الذي يشهده العالم اليوم، يعاني المئات من قسوة العوز.قد يكون من المستحيل الاقتناع وتصديق الاحصائيات التي تفيد بإن ما يقارب عُشر سكان العالم يعيشون في فقر مدقع في الوقت الحاضر، بمعنى ان الفرد لا يستطيع توفير ما يسد قوت يومه، وقد يكون، مضطرا في أحيان كثيرة للتخلي عن وجبة طعامه الرئيسية، وذلك بحسب البنك الدولي.لا توجد على ارض الواقع مشكلة قائمة دون وجود حلول لها، فالفقر ليس امرا يستعصي على الجميع وضع حلول ناجعة له، لكن الذي يحصل تحديدا هو غياب الرؤية الواضحة والاستراتيجيات التي تفك رموز هذه العقدة الكبيرة، فلا توجد لغاية الآن وفي اغلب الدول التي عانت من مرارة الحروب، سياسة اقتصادية قادرة على انتشال الافراد من الأوضاع المتردية.ان الفقر ليس من الأمور التي يعجز الانسان عن معالجتها، اذ تشير البيانات الى أن للتكنولوجيا الحديثة الأثر الواضح والكبير في تطوير جميع المجالات، لاسيما القضاء على ظاهرة الفقر، عبر العديد من المشروعات الاقتصادية المنتجة والتي تعود بالفائدة على أصحابها.والفضل يعود لذات التطور (أي التكنولوجي) الى خفض معدلات الفقر الحاد بشكل كبير ومتسارع خلال العقود الثلاث الأخيرة، فقد اكدت احدى الدراسات التي أجريت بهذا الخصوص على انخفاض عدد من يعيشون تحت خط الفقر المدقع من ما يزيد على 40% سنة 1985 إلى ما يقارب 10% عام 2019، وكل هذا يؤكد أن الفقر العالمي لا يمكن أن يعزى لمحدودية الموارد المالية، بل يعود لعوامل عديدة نتجت من صنع الأنظمة السياسية والاقتصادية السائدة آنذاك.ونرى من يهتم بقضايا التنمية البشرية بصورة عامة، يمنح ظاهرة الفقر حيزا كبيرا من تفكيره لايجاد الحلول المباشرة للقضية، وتراه أيضا حريصا على دراسة وتحليل مسبباتها ونتائجها، فالفقر لا يختلف عن الامراض الأخرى التي تصيب الانسان، ففي كثير من الأحيان يولد الفقر امراض للافراد منها الامراض النفسية الى جانب الصحية.والترابط وثيق بين الصحة الفردية والفقر بحيث لا يمكن الفصل بينمها او تجزئتهما، ففي معظم الأحوال تلازم المشاكل الصحية الفقراء أكثر من غيرهم، وقد يكون خافيا على البعض أن أول وأهم محدد في تشكيل مستقبل الإنسان ومسار حياته بشكل عام والمالي بشكل خاص، هو شيء ليس للإنسان نفسه قدرة عليه.هذا الشيء هو الصحة الجسدية والعقلية التي يتمتع فيها الانسان، ويبقى الفقر الخطر الذي يهدد الانسان منذ النشئة الاولى، فمنذ اللحظة التي يبدأ فيها الجنين بالتكوين يبدأ الفقر يلعب ألاعيبه في تهديد مستقبله الذي لم يأت بعد، ويأتي ذلك التهديد عبر نقص التغذية الصحية للأم والمتزامن عادة مع قلة الوعي والثقافة الصحية، اذ تمثل هذه المسألة الضربة الأولى لمستقبل ملايين الأطفال من الطبقات الكادحة حول العالم.هنالك ادلة كثيرة حول ارتباط الفقر بالولادة المبكرة وعدم اكتمال النمو الطبيعي للجنين داخل الرحم، ففي دراسة بعنوان: ولد مبكرًا وولد فقيرًا، يناقش الباحثون النتائج الفسيولوجية والعصبية والمعرفية والتعليمية المرتبطة بالخدج في سياق الفقر، مع تعريف دور الفقر كضغط سام ومسبب للولادة المبكرة التي يمكن أن تورث إلى الجيل التالي من خلال القوى اللاجينية، وبالإشارة أيضًا إلى ارتباط هذا الواقع بانخفاض الجهوزية للالتحاق بالمدرسة وكنتيجة انخفاض التحصيل العلمي الذي يديم دورة الفقر.ويجبر الفقر بعض الاسر على اتخاذ الأماكن النائية سكنا لها، وبالتأكيد فان هذه المناطق تتميز بعدم توفر ظروف سليمة صالحة للعيش البشري، وبالتالي فانها تؤدي الى تعرضهم الى الهواء الملوث الناجم عن وجود المصانع والمعامل التي تفرز الكثير من المخلفات المضرة بصحة الانسان.اكثر الشرائح في المجتمع عرضة للامراض هم الأفراد المستضعفون الذين يفتقدون للرعاية الصحية اللازمة والتي يتمتع بها اقرانهم من بني البشر في المناطق القريبة من مركز المدينة او من أصحاب القرار والنفوذ، ففي المناطق الأخيرة نجد توفر المراكز الصحية والخدمات المختلفة، وهو ما تفتقر اليه المناطق البعيدة الى حد ما عن مراكز المدن.الفقر عامل من عوامل اعتلال الانسان وتدهور صحته في اغلب المواطن، فالحاجة دائما ما تكون عائقا امام عدم تلقي الانسان الرعاية الصحية اللازمة في أوقات الحاجة اليها، فالاشخاص الذين لا يملكون قوت يومهم، من المستحيل ان يكون لديهم المال الكافي للاعتناء بصحتهم ومنعها من التدهور، فهم يقعون في أحيان كثيرة بمصيدة العوز وفريسة المرض الذي لا يبالي أي الأشخاص يهاجم صغيرا كان او كبير.نحن اليوم بأمس الحاجة الى إعادة النظر بالنظام الصحي القائم في عموم البلاد، والعمل على اتباع نظام جديد، من شأنه تحسين الأوضاع ويراعي جميع الشرائح لاسيما الفقراء منهم، ويتحقق ذلك عبر تخفيض الأجور العلاجية لهذه الشريحة، ودعم تكاليف التنقل من وإلى مراكز الرعاية.