مقالات

العراق وإقليمه.. تآلف الأمس وتخالف اليوم

رشيد خيون

يكاد يصل النزاع بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق إلى لحظة لا عودة بها، وذلك بوجود القوات التي عُرفت بقوات دجلة الفرقة التابعة للجيش الاتحادي، على حدود التماس القائمة الآن. لقد أعاد وجود هذه القوات ومواجهة قوات الإقليم لها والحرب الإعلامية الأجواء بين بغداد والمنطقة الكردية إلى الأيام الخوالي، وكأن لم يكن ما بين حزب «الدعوة الإسلامية» و«الديمقراطي الكردستاني»، فهما المعبران عن الأزمة، من تآلف سابق، وكأن الأخير لم يفتح وديان المنطقة لمجاهدي «الدعوة» بالمرور من وإلى العراق.
لم تميز الأطراف التي تمكنت من السلطة ببغداد عام 2003 بين زمن المعارضة وتآلفاتها واندفاعاتها، وزمن السلطة واختلافاتها ومسؤولياتها. كان الهدف في زمن المعارضة مشتركاً، وهو ضدية العدو السابق، والعمل على إسقاطه من دون الاهتمام والانشغال بما وراء ذلك، وما كان يقدم في بيانات تلك القوى من تطلعات مجرد هتافات مقابلة بهدف الاستيلاء على السلطة.
فمن المعلوم أن زمن المعارضة هو زمن الهدم، ولا يحتاج إلى متخصصين في العلوم والفنون والإدارة، بقدر الحاجة إلى احتراف العمل الحزبي السري، وإجادة نقل السلاح والتدرب على كيفية حرب العصابات، فالهم الأول هو التنغيص على العدو، من دون اعتبار للنتائج كتفجير مكان عام أو جامعة أو سفارة، بالتفجيرات والاغتيالات والتعاون إلى حد الذوبان في مصالح الدول الخارجية.
أما زمن السلطة فهو البناء المحتاج لمهارة وعِلم، ومواجهة الشعب في حياته اليومية من تنظيف الشارع إلى التوظيف والخدمات بشتى أنواعها، وخلال السلطة تظهر المصالح والتهافت على المواقع. فأية ثورة أو انقلاب ظل رجاله متجانسين إلى ما بعد السلطة! فما هي إلا سويعات الاحتفال بالنصر، والانتهاء من رفع الأنخاب حتى يشب الخلاف وتمارس التصفيات الجسدية.
بينما عاش الحزبان الكرديان والأحزاب الشيعية الدينية وهم التجانس طبقاً لما كانا عليه في زمن المعارضة، وأخذا يتحدثان عن تحالف استراتيجي، متناسيان أنهما في زمن السلطة وبمواجهة الشعب، ومتناسيان أيضاً أن الإعلان عن هذا التحالف يعني، في زمن السلطة تحديداً، أنهما ضد بقية أهل العراق. ومن واقع الحال، أن القوى الحزبية الشيعية والكردية لا تمثل الشيعة والكرد مثلما لا تمثل الأحزاب السنية أهل السنة، لأن الأمر لا يؤخذ على عموم الطائفة أو القومية إنما يتحدد بالقوى الحزبية نفسها. فهل الشيعة كافة راضون عن الأحزاب الدينية؟! والسؤال نفسه يطلق ما بين الأحزاب الكردية والجمهور الكردي!
في أجواء المعارضة أصبحت كردستان العراق وحتى التاسع من إبريل 2003 ملاذاً آمناً لكل الأحزاب العراقية، بغض النظر عن توافقها التام، وخصوصاً حول القضية الكردية. حتى افتتحت حسينية باسم حسينية «الحكيم» بالسليمانية، في تسعينيات القرن الماضي، رغم عدم وجود شيعة هناك، إلا الطارئ على المنطقة. ومعلوم أن هذه الحسينية لا يرمي وجودها إلى أكثر من المجاملة، على أساس مواقف مرجعية محسن الحكيم (ت 1970) من القضية الكردية. فقد شاع أن الحكيم حرّم الحرب على الكُرد، لكن الحقيقة أن الأخير لم يحرم ذلك إنما احتج على زج اسمه في بيان ضد القوى الكردية في زمن عبد السلام عارف (قُتل 1966). نقول هذا ليس تقليلاً من الموقف لكن لتبيان الاختلاف ما بين الفتوى من أجل الكرد والاحتجاج لزج اسم المرجعية من دون مشاورة (انظر مذكرات مهدي الحكيم)، فلو حرم ذلك بفتوى لترك العديد من الضباط والجنود الشيعة مواقع القتال آنذاك وفي ما بعد.
هذا الموقف تحدد بالقوى المتنفذة بالمنطقة الكردية، وإلا فإن شباباً كُرداً مثلما تحدثوا عن امتعاضهم مِما يرد في المسلسلات المصرية من استخدام مفردة «الاستكراد»، كإشارة إلى الاستغفال، وما تنطوي عليه المفردة من شعوبية، تحدثوا أيضاً عن فتاوى علماء شيعة ضد قومهم، ووجدتها تحز في نفوسهم، مع وجود حسينية بين ظهرانيهم، وقد أوضحتُ لهم بأنه لا يتعلق بالكُرد إنما شأن هؤلاء هو شأن الأعراب: «الأَعرَابُ أَشَدُّ كُفرًا وَنِفَاقًا» (التوبة: 97)، فلا يعني العرب، على الإطلاق، لذا هناك مَن يحتج مِن مثقفي الكُرد على تسميتهم بالأكراد، قياساً على ما ورد في الآية والمصطلح.
مثل ذلك فتاوى الفقه الشيعي بكراهة تحريم تزويج الأكراد، وقد أورد ذلك شيخ الطائفة الطوسي (ت 460هـ) بالقول: «لا تنكحوا من الأكراد أحداً فإنهم جنس من الجن كشف الله عنهم الغطاء» (تهذيب الأحكام). وظل هذا الرأي متداولاً في الرسائل الفقهية حتى ورد في «مستمسك العروة الوثقى» للسيد الحكيم. لم أذكر ذلك اعتباطاً إنما هؤلاء الشباب المحتجون، على ما ورد في الرسائل الفقهية، كانوا يعتقدون أنها مؤثر في الأزمة الأخيرة، وعلى وجه الخصوص بعد أن ظهر القيادي في المجلس الأعلى الإسلامي الشيخ جلال الدِّين الصغير من تهديد المنطقة الكردية بسيف المهدي المنتظر.
ومع اختلاف زمن المعارضة عن زمن السلطة هناك ما يطل من وراء تلك الأزمة، وهو المخاوف من الانتخابات القادمة، فإذا كان لعشر سنوات لم تتمكن السلطة التنفيذية من رفع الأزبال من شوارع بغداد، وأن العراق وإقليمه، ليس فيهما صناعة ولا زراعة، سوى رمَّان حلبجة وجوز هورمان، وهما من البساتين القديمة، فكل شيء مستورد بالعراق، من الطماطم إلى الفجل.
مع الاعتراف بوجود كهرباء متواصلة ليل نهار وحالة أمنية وعمرانية بالإقليم وفصل واضح بين الديني والثقافي والسياسي، ومع ذلك هناك تفاقم للعمل المعارض بالإقليم الإسلامي والعلماني لكثرة السلبيات.
أما ببغداد وتوابعها فلا يوجد ما يغري المواطن في انتخابات الوجوه نفسها، لذا قد تجد القوى المحركة للنزاع بين المركز والإقليم في هذا النزاع تعويضاً عن فشلها في إدارة الدولة فليس هناك أخصب من إثارة النزاع والعيش في حالة حرب لخلق رموز وأبطال.
وأخيراً علينا التذكير بأن القوى الكردية عليها تحمل قصدها من تدهور الأوضاع بالعراق، فمن غير مشاركتها القوية في الحكومة والبرلمان ومختلف المناصب، وما يجب أن تتحمله من حصة الإخفاق، فالبرزاني قد أخذ بيد المالكي إلى رئاسىة الوزراء (2010) والطالباني كان المنقذ من سحب الثقة (2012)، لذا عليها مراجعة نقدها لأداء السلطة التنفيذية أو توسعها نحو الديكتاتورية، مثلما يتحدث إعلامها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى