“فإن أهل السياسة والأديان ومن لحق بهم، وعددهم لا يزيد عن واحد بالمائة يتمتعون بنصف ما يتجمد من دم البشر أو زيادة، ينفقون ذلك في الرفه والإسراف”
عبد الرحمن الكواكبي عن كتاب طبائع الاستبداد.
بحسب رأي حنّا بطاطو في كتابه العراق ج٢ فإن جميل صدقي “الزهاوي قد حيا الثورة البلشفية في كانون الثاني (يناير) ١٩٢١، في قصيدة عنوانها ‘الحياة والموت’ قال فيها:
أيها الفقراء لا تيأسوا من الحياة، أيها الفقراء
رفعت أخيرا فوق رابية الهدى
راية بلشفية حمراء
المعلومات التي ينقلها بطاطو عن تأسيس الحزب الشيوعي العراقي “المد الأحمر” تفيد بأن اول حلقة تنظيمية سرية للحزب تأسست في محافظة البصرة عام ١٩٢٧، وبعدها بعام واحد تأسست حلقة الناصرية “نواة جماعة الناصرية الشيوعية”، التي كان فيها كل من:
- يوسف سلمان”فهد” سكرتير الحزب الشيوعي منذ عام ١٩٤١ وحتى إعدامه شنقا مع اثنين من رفاقه سبق اعدامهما إعدامه وذلك للضغط عليه لينسحب من الحزب عام ١٩٤٩.
- داود سلمان.
- غالي زويد “من ذوي البشرة السمراء ويعود لعشيرة السعدون ويعمل وكيلا لاحد تجار هذه العشيرة المعروفة.
من هنا نستنتج ان الأفكار الماركسية دخلت العراق أواسط عشرينيات القرن الماضي وتبلورت في نهايته لكن اول بيان ظهر في العراق يحمل شارة المطرقة والمنجل، بحسب قول حنّا بطاطو في كتابه العراق ج٢ ص٨٠، كتبه يوسف سلمان “فهد” نفسه بخط يده وعلقه في ثمانية عشر مكانا مختلفا في “بلدة” الناصرية ليلة ١٣ كانون الاول (ديسمبر) ١٩٣٢ وكان يحمل توقيع عامل شيوعي، وحمل البيان شعار “يا عمال العالم اتحدوا”
جاء في بداية البيان:
“أيها العمال.. العاطلون عن العمل يملأون الشوارع.. نساؤهم واطفالهم لا يملكون ما يقتاتون به.. هل فكرت الحكومة بمساعدتهم في هذا الطقس البارد؟ لم يحصل شيء من هذا.. لأن الحكومة ليست الا عصابة تعمل ضد الشعب”
منذ مطلع العقد الثالث من القرن العشرين كان العراق يشهد حراكا سياسيا وآخر ثقافيا غير مسبوق إذ تشكلت فيه عام ١٩٢١ اول حكومة بزعامة النقيب عبد الرحمن وتوج فيصل بن الحسين كأول ملك للعراق وانتخب اول مجلس تشريعي عراقي صوري غير فعال، جاء ذلك بعد نفي كبار رجال دين شيعة خارج العراق اشترط عليهم لعودتهم عام ١٩٢٤ ان لا يتدخلوا في السياسة إطلاقا!
وعن تلك الفترة يحدثنا السيد حسن شبر في كتابه التحرك الإسلامي (١٩٠٠/١٩٥٧) ص ٣٥١: “وكان طبيعيا أيضا أن ينشط الاتجاه اللاإسلامي المتمثل بالموجة الالحادية والتبشيرية في الأوساط الاجتماعية، نتيجة غياب الدور الإسلامي الواعي”
ويتابع السيد شبر الذي يعتبر من قدامى المنتمين إلى حزب الدعوة الإسلامية في نفس الصفحة قائلا:”وقد شجع هذا الغزو الفكري، حالة الجمود التي سيطرت على الوضع الإسلامي من حيث أوضاعه الخاصة، حيث اصبحت الأجواء التقليدية هي التي تحكم الحياة الاسلامية”
ودعونا نتوقف قليلا عند هذين المقطعين المهمين والخطرين الذين كتبهما شبر بعد أن كتب في صفحة واحدة قبل هذه الصفحة وتحديدا في أعلى صفحة ٣٥٠ إذ يقول:”أمّا الأمة فقد كانت قد تعبت في مواجهتها للانكليز منذ العام ١٩١٤ إلى العام ١٩٢٠، فقد كانت خسائرها كثيرة في المال والرجال وإحترقت المزارع”
كانت الأوضاع في العراق مأساوية جدا إذ ترتفع نسبة البطالة والفقر والجهل والمرض، كان العراق مجرد خربة تعج بالفقراء والمساكين إلى جنب عدد محدود للغاية من الملاك والاقطاعيين الذين كانوا يسومون الفقراء انواع العذاب وكانوا على صلة وثيقة برجال السياسة ورجال الدين الذين طالب البعض منهم بلا وعي بترشح الشيخ خزعل الاهوازي إلى عرش العراق بدلا من احد انجال شريف مكة!
في هذه الفترة رصد شباب مثقف الوضع في العراق والمآلات الخطرة التي يتجه لها ولم يجدوا اي جهة تحمل على عاتقها مهمة ارشاد الناس وتوعيتهم وانتشالهم من الأوضاع المأساوية التي كانوا يعيشونها..
ومن المفارقات الغريبة أيضا انه خلال هذه الفترة كانت الحركة الوهابية التي تسيطر على أجزاء كبيرة من نجد والحجاز تعمد إلى شن غارات إرهابية على سكان العراق تقتل العراقيين على اساس الهوية وتنهب أموالهم وسط عجز حكومي وعدم تحرك ديني يتناسب مع حجم المخاطر التي كان يتعرض لها سكان العراق خصوصا في المناطق الجنوبية أكبر وأهم أماكن نفوذ رجال الدين!.
تصدى هؤلاء الفتية الذين وصلتهم افكار المساواة ومناهضة الطبقية البرجوازية، وكانوا هم ضحايا هذه الطبقية التي يمثلها الاقطاع البغيض، تصدوا لعمل فكري ثقافي يدعوا إلى التعلم والتسلح بالمعرفة من أجل مواجهة الطبقة البرجوازية وردع استحواذها على المقدرات بغير وجه حق ولا رادع لهم من قبل النظام السياسي او الحراك الديني الذي قال عنه شبر انه “تقليدي” وفي الحقيقة لم أجد تعريفا لهذا الإصطلاح يمكن الاعتماد عليه علميا رغم تردده في أكثر من موقع وفي أكثر من مناسبة، كما لم أجد شرحا وافيا لما هو “غير تقليدي” في الحراك الديني الذي لم يكن بالمستوى بالمطلوب في كل الأحوال على الرغم من أن شبر حاول أن يبرز دور الدين وبعض رجالاته في تلك المرحلة التي كادت ان تنتهي “بهزيمة إسلامية” والحقيقة انها انتهت بهزيمة إسلامية نكراء فعلا أمام مد احمر دخل بيوت وبرانيات رجال الدين هؤلاء الذين اعتنق عدد منهم ومن حولهم ومن ذراريهم الفكر اليساري واصبحوا قياديين بارزين فيه، (سلام عادل مثالا)، وبقي الحال كما هو عليه حتى بعد تأسيس حزب الدعوة الإسلامية الذي لم يستطع ان يوقف المد اليساري الشيوعي وان حد نسبيا من تحركه مما اضطر مرجع الدين الاعلى في ستينيات القرن الماضي محسن الحكيم إلى إصدار فتوى تحرم الانتماء إلى الحزب الشيوعي “الشيوعية كفر والحاد” لكن ذلك لم يوقف الشيوعية أيضا وبقي تأثيرها قائما وهي تواجه الكثير من التحديات التي منها القمع البعثي الدموي الذي اعتبرها اول واشد اعدائه..
لقد سمح الوضع الاجتماعي والسياسي والديني والثقافي والاقتصادي للفكر الشيوعي بالنشوء والانتشار والبقاء فترة طويلة من الزمن في العراق، وهذا ما يجعلنا نتوقف الآن في هذه الفترة نتوقع مدا احمرا او ازرقا او من أي لون آخر جديدا في العراق يكون رافضا للدين والسياسة على غرار المد الشيوعي لتشابه الظروف الموضوعية بين تلك الفترة في العقد الثاني من القرن العشرين والعقد الثاني من القرن الواحد وعشرين..
إياد الإمارة