الطبقة الوسطى.. لها وما عليها
الدكتور ابراهيم خليل العلاف
بغض النظر عن أراء وتفسيرات استاذنا الدكتور علي الوردي (1913_1995) عالم الاجتماع العراقي المعروف وأهمية كتاباته، حول طبيعة المجتمع العراقي، وتفسيره لهذا المجتمع في ضوء النظريات الثلاثة المعروفة :» نظرية البداوة والحضارة» و « نظرية التناشز الاجتماعي» و» نظرية ازدواجية الشخصية العراقية»، وبغض النظر عن ما نعرفه عن المجتمع العراقي وعقده النفسية والاجتماعية، وعلاقة الإنسان العراقي بالبيئة، وعلاقته بالسلطة، وظاهرة العنف الدموي، وظاهرة التشبث بالكراسي، وثقافة التسلط والاستبداد والانا، ونزعة التغلب، والحدية في التعامل، والأحادية في النظرة إلى الحياة والكون والمجتمع، وبغض النظر عن ما يتصف به مجتمع الموصل من تحضر، وفردية، وعدم رضا عن السلطة، وهوس في النظافة، وثنائية العروبة والإسلام. وثنائية الوطنية والقومية . وبغض النظر عن ما قاله الملك فيصل الأول ملك العراق مؤسس دولته الوطنية الحديثة (1921_1933) رحمه الله، من انه لم يجد شعباً عراقياً، بل وجد كتلاً متنافرة لا يوحدها شعور وطني.. أقول إن ما حدث في 9 نيسان 2003 ، كان زلزالاً لم يترك أثاره السلبية على الدولة والجيش والمؤسسات وحسب بل على المنظومة القيمية والأخلاقية والاجتماعية وحتى اللغوية في العراق .. وها نحن وبعد كل هذه السنوات لازلنا نعيش أجواء الانقسام، وأجواء العنف، وأجواء التشدد، وأجواء القسوة، وأجواء الفساد، وأجواء الرشوة.. فما الذي ينبغي أن نفعله؟ وكيف نعيد إلى المجتمع وئامه؟ وكيف نحقق التعايش السلمي بين أبنائه؟ والاهم من كل هذا كيف ننهض ؟ .وقبل الإجابة عن هذا كله لابد أن أطمأنكم بأن العراقيين شعب الكبرياء.. شعب العنقاء.. كلما احترق لهذا الطائر الأسطوري جناح ، تسامى شامخاً في السماء وارتفع.. لقد اثبت العراقيون أنهم شعب غير قابل للقسمة.. وان عراقهم يجب إن يكون واحداً موحداً، وأن تاريخهم لم يشهد حرباً أهلياً، وإذا ما حدثت ولن تحدث فإنها ستكون ليس بين كتلة وكتلة، وبين مدينة ومدينة بل بين غرفة وأخرى.. وتاريخنا الطويل والعريق لم يشهد يوما حربا أهلية.. كانت الحكومة عبر التاريخ العراقي تواجه المذهب الفلاني.. وتواجه الحزب الفلاني ، وتواجه القومية الفلانية وتواجه العشيرة الفلانية ولكن لم يكن المذهب ولا الحزب ولا القومية ولا الدين ضد الدين الأخر أو القومية الاخرى مطلقا . وهذا ما يشجعنا ويجعلنا متفائلين إزاء مستقبل شعبنا في العراق..أن مايريده مجتمعنا لكي ينهض هو (المنهج) .. هو الطريق ولا أرى بأن هناك منهجا ، وطريقا يساعده في الخروج من عنق الزجاجة سوى المنهج الوسط .. والشيء المهم في ذلك كله أن لدينا في تراثنا العربي والإسلامي، الكثير من مقومات النهوض.. فالوسطية ، والاعتراف بالأخر، والحكم الراشد مفاهيم ليست جديدة علينا ، وإنما هي مفاهيم عرفتها حضارتنا ، الكرامة والحرية والعدل والمساواة والسلام قيم أكد عليها الإسلام ودعا إلى العمل بموجبها في مواجهة عدد من العوامل التي تتعارض مع هذه المبادئ وتطيح بالتعايش الاجتماعي اثنان منها داخليان هما الاستبداد والظلم الاجتماعي، وثلاثة خارجية هي: الاحتلال الأجنبي، والسيطرة الصهيونية، والهيمنة الثقافية الغربية . وألان ، ماالوسطية؟ أقول أن مما يسود عراقنا، وحتى عالمنا العربي اليوم، من سلبيات، وإشكالات، وعقد واحباطات، ينبغي أن لا يفقدنا القدرة على ( رؤية الهدف) و( تعلم الوسائل) و(صولا إلى النتائج المتوخاة) .. ولعل من ابرز ما يجب أن نعمل من اجله هو ( توفر الهمة) ، ( وقوة العزم) ، ( وصدق الإرادة) ، والاهم من ذلك الاهتمام بالأطفال والشباب والتعليم ، وانتهاج الطريق السلمي المرتكز إلى الموعظة الحسنة ، والرحمة في معالجة المشاكل. إن الغلو ،والتشدد ، والتطرف،وعدم الاعتراف بالأخر، والغلظة في التعامل، وغياب الرحمة ، والخشونة ، وسوء الظن ،ورفض الأخر ، ليس من المفاهيم التي عرفها مجتمعنا خاصة في عصور الازدهار والنهوض، والفكر العربي والإسلامي، خاصة في جانبه السياسي والديني، فكر منفتح، متوازن معتدل، عملي ، متسامح، عقلاني وواقعي. والإسلام ، كدين وثقافة، ثورة على الظلم والاستبداد ودعوة الى العدل والمساواة والصراع المستقيم في كل ميادين الحياة. والاعتدال يتجسد ليس في جانب العقيدة وحسب بل وحتى في جوانب العبادات، والمعاملات، والتشريعات وعلى هذا الأساس ، فالوسطية ليست تيارا في الحياة ، بل( طريق) ، و( منهج للتغيير والاستقرار).. والوسطية كمنهج في الحياة ، هي الناظم الرئيسي لمعادلات العيش الواحد وتوازنات الحكم وهي الضامن الحقيقي للوحدة الوطنية والوئام الاجتماعي فالحق المطلق ليس مع أي طرف ولابد للغة الاعتدال والمنطق أن يسود، والوسطية على هذا الأساس صنو الاعتدال والاديان والأعراف تأمر بالاعتدال، وتنهى عن التزمت والتعصب، وتنادي بالتسامح .كما أن الوسطية تمثل اتجاها يفضي إلى النهضة ،والتغيير، ومراعاة الواقع والزمن.. أنها لا تعني التوسط أو التعادل بين طرفين متقابلين بل تعني اختيار الأفضل..»لتكونوا شهداء على الناس» أي ليكون لكم ( حضور) و( موقف) ايجابي.. ومعنى هذا، أن الوسطية ليست تسليماً بالواقع، وإنما هي القدرة على التعامل مع الواقع لتغييره،.. أنها تؤمن بالتدرج، واقتراح البدائل.. إنها العمل المتواصل على تقديم النماذج الصالحة ..وإذا كان التشدد الذي يميل الى الانعزال عن الواقع أو المواجهة العنيفة مع الواقع، فأن الوسطية، هي التي تحمل مشروعا للتغيير ورفض الخضوع للأجنبي ورفض واقع التخلف والتجزئة.. أنها لا تمثل الوسط بين الحق والباطل وإنما هي انحياز للعدل واحقاق للحق .أنها لاتبرر الخضوع والاحتلال بل تبرر المقاومة لقوى الاحتلال والهيمنة الخارجية . وما لم ينته الحرمان ،وينتهي الاستبداد، والظلم والبطالة والإقصاء والعدوان والاستعمار لن يهدأ الإنسان ولن يهدأ المجتمع .. ويقيناً أن الوسطية أذا ما أنتهجت فإنها ستؤدى إلى الاستقرار، والسلم السياسي والأهلي ، فلا تنمية بدون استقرار، ولا استقرار بدون وسطية.. بقية المقال على الموقع أن المنهج الوسطي يؤمن بالآخر، ولا يرفضه ويسعى من أجل تأمين نقاط التقاء مع الآخرين، ومن ثمار الوسطية زرع الثقة بين أبناء البلد الواحد، وهذا مما يشيع حالة من المودة، وبناء علاقات اجتماعية ايجابية بعيدا عن التعصب والحقد والعنف وهذه تساعد في بناء المجتمع، وتحقيق حالة من الاستقرار التي تهيئ المجال للتفاعل الاجتماعي الصحيح.ولتتساءل أخيراً ومن هم المؤهلين في مجتمعنا لقيادة منهج الوسطية والسعي باتجاه تحقيق الاستقرار والسلم الاجتماعي والتنمية المستدامة؟.. وأقول وبكل صراحة أنهم أبناء (الطبقة الوسطى) ، هذه الطبقة التي تعرضت خلال الـ (50) سنة الأخيرة للتفكك ، والذوبان والانهيار نتيجة استقطاب المجتمع الى قلة تحكم وتملك كل شئ.. وكثرة لا تحكم ولا تملك شيئاً..لقد تعرضت الطبقة الوسطى التي قادت حركة التغيير، والتحرر، والاستقلال، وأسهمت في ترصين أسس وركائز المجتمع العراقي الى الكثير من التحديات، وانحسر دورها.. لم تكن الطبقة الوسطى طبقة رأسمالية بالمفهوم الغربي، بل كانت طبقة اجتماعية متماسكة أحتل فيها المثقفون جزءاً ديناميكياً وخاصة في دعوتها الى التحرر السياسي، والاجتماعي ونشاطها في إقامة قاعدة صناعية وطنية بعيداً عن قيود الحكومات.. وتدخلاتها.إن الوسطية ترتكز في أساسها على نمو وازدهار الطبقة الوسطى في المجتمع خاصة ان حجم هذه الطبقة يمثل مقدار العدالة الاجتماعية في هذا المجتمع.. فهي المؤشر على الاستقرار السياسي، وهي الدالة على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وكلما اتسعت هذه الطبقة وانتشرت، وازداد بعد المجتمع عن الفقر، والحرمان، والتطرف، والاحتقان لقد حدد الدكتور الفرد سوفي Sauvy في كتابه بالفرنسية الموسوم:Theorie General de la population الصفحة 242 وفي دورية population (العدد الرابع عام 1951) معايير للتخلف وقال أنها تتلخص في عشرة معايير أبرزها: 1.ضعف الطبقة الوسطى، 2.والنظام السياسي المستبد، ، 3.ونسبة الأمية العالية، 4.وسيادة الاقتصاد الزراعي، 5.والبطالة، 6.وخضوع المرأة، 7.وتشغيل الأطفال، 8.وسوء التغذية، 9.ونسبة الوفاة العالية بين الأطفال،10.والخصوبة المرتفعة. ويقيناً أن هذه معايير ذات طابع اقتصادي وسكاني وسياسي واجتماعي. ويعلق الأستاذ الدكتور حافظ التكمجي في أطروحته للدكتوراه الموسومة:» مساهمة في دراسة مشكلة التخلف الاقتصادي في العراق» ، والتي ناقشها في كلية الحقوق والاقتصاد بجامعة باريس سنة 1957 على قول الفرد سوفي بأنه يؤيده في قوله بأن التخلف ينطوي دائماً على نوع من التبعية».إن الطبقة الوسطى هي الأكثر اهتماماً بالحفاظ على قيم المجتمع وأعرافه، وكذلك على السلم الأهلي، والنظام السياسي، والتطور الاقتصادي في المجتمع ،من خلال تمسكها بالمنجزات التي تحققها والتوازنات التي تقوم بها وخاصة في مجال التقليل في الفوارق بين فئة وأخرى، ومجلة وأخرى ومجموعة وأخرى.إن الطبقة الوسطى هي المحرك الاجتماعي، وهي المحرك الثقافي للمجتمع.. وهي العقل المفكر فيه، الذي يسعى باستمرار للحفاظ على مصالح الوطن وتطويره وترسيخ مفاهيم المواطنة وتحمل المسؤولية تجاه المجتمع، وزيادة معدلات الدخل فيه ورفع مستوى معيشة الناس.. كما أنها هي الطبقة الأكثر استهلاكاً لإنتاجه الوطني.. وهي الطبقة الأكثر رغبة في التقدم.. أنها تسعى لأن يأكل الناس أحسن الأكل، ويشربون أفضل الشرب ويلبسون أجمل الملابس ويسكنون أحلى السكن.. وينعمون بالرفاهية والحياة الكريمة..لذلك ؛ فإن الحكم على نجاح التعايش في المجتمع ، يجب أن يشمل في منطلقاته معايير انتشار الطبقة الوسطى، وخلق حالة من التكامل بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع وصولاً الى إيجاد القدرة على التوازن، ونماء المجتمع وتطوير قدراته.. وإذا ما أردنا لمنهج الوسطية، ولدعوة التعايش والوئام، والاستقرار الاجتماعي، والنجاح لابد من إحياء وتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى في المجتمع، وإفساح المجال لها لأداء دورها في إحداث التغيير المطلوب.اختم حديثي هذا بقول الفيلسوف والشاعر والكاتب المهجري الكبير ميخائيل نعيمة 1889-1988 ،وهو يخاطب بني قومه :إن لم تكن بئراً، فكن دلواً،أو لم تكن دلواً فكن حبلاً، أو لم تكن حبلاً فكن بكرة في الأقل،ولاتكن حجراً يطرحه العابث ونفي البئر ليسمعوا ضجة الماء فيها