“الشعبُ في زمن الكورونا”
الكاتب : سعد بن طفلة العجمي
الحبُ في زمن الكورونا”، و”الحربُ في زمن الكورونا”، و”العلمُ في زمن الكورونا” و”الشعبُ في زمن الكورونا”، عناوين تكررت في أكثر من مجالٍ ومساحة، بعضها يصلح عناوين أفلام عربية فكاهية، لكنها ترتبط جميعاً بالكورونا.
ففي زمن الكورونا تغيّرت العادات، وتلاشت المصافحة و”حب الخشوم”، بقي حب الخشوم بكنايته عن الاحترام، أو النفاق أحياناً، واختفى تقبيل الأيادي كناية عن التذلل والخنوع، وانقطعت الديوانيات، واكتفى الناسُ بالرسائل النصية للتهنئة بالأفراح والتعزية بالأتراح عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ويا لها من تسمية على مُسمى: “وسائل التواصل الاجتماعي”، تخيلوا لو لم يكن العلم قدّم لنا هذه الوسيلة المذهلة كي نتواصل عبرها! تخيلوا لو أنّ الكورونا ظهر في زمن لا وسائل للتواصل الاجتماعي فيه! الديوانيات بالكويت تناقصت أعداد مرتاديها، بسبب تواصلهم باستمرار طيلة الليل والنهار عبر فرق الـ”واتساب”.
يتواصل كلّ من محجره الصحي الإلزامي أو الاختياري اليوم بالصوت والصورة ومباشرة مع من يريد من أحبابه وأصحابه، لكن المؤلم في زمن الكورونا تلاشي العناق بين العشاق، وانقراض قُبل الأحباب، وطبع البوسة على خدّ الحبيب، فلا وجود لِـ:
قبّلتُها تسعاً وتسعين قبلة * وواحدة أخرى وكنت على عجل
وعانقتها حتى تقطع عقدها * وحتى فصوص العقد من جيدها انفصل
الاستعاضة عن ذلك بين المحبين اليوم بـِ: راسلتها تسعاً وتسعين وَتْسَباً، وأرسلت لها قبلاً مصورة وباقات من صور الورود والزهر.
في زمن الكورونا تلاحم الكويتيون، وأغلقوا بلادهم ومساجدهم حفاظاً على أرواح البشر، وتسابق المتطوعون من الشباب، والمتبرعون من الأثرياء، وتساوى البشر أمام المرض، وكذا فعلت دول الخليج، ودول أخرى ترى أن حياة الإنسان فوق كل اعتبار.
أغلقت إيطاليا أبوابها حتى إشعار آخر، فغنّى الناس من شرفات وأسطح بيوتهم للحب والحياة: “كل شيء سيكون على ما يرام undra tutto bene، وغنوا: “قل لي ما الذي يجعلنا نشعر بأننا معاً رغم فُرقتنا”.
وبثوا أغنية عبر وسائل إعلامهم للأوبرالي الراحل الشهير لوتشيانو بافاروتي خلفيةً موسيقية لعرض طيران حربي إيطالي ينفث أبخرة ملونة بألوان العلم الإيطالي، وعنوان الأغنية “سوف أنتصر”، ولقصة الأغنية أصداء في الوجدان الإيطالية، لعل شرحها يحتاج إلى مقالة أخرى، لكنها كانت موسيقى كأس العالم لكرة القدم التي نظّمتها إيطاليا عام 1990.
وعلى ذكر كرة القدم، أوقف كورونا فريق ليفربول من الاحتفال المبكّر ببطولة الدوري الإنجليزي الممتاز للمرة الأولى منذ تنظيمها عام 1992، المناهضون الفريق فرحون، لكنّ مدرب الفريق المذهل يورغان كلوب قال قولاً إنسانياً مذهلاً حول تعليق مباريات الدوري: “في مثل هذه الظروف، كرة القدم ومبارياتها ليست مهمة أبداً، بالطبع لا نحب أن نلعب بملاعب خالية من الجمهور، ولا نتمنّى إيقاف المباريات والبطولات، لكن إن كان ذلك يعني الحفاظ على صحة إنسان واحد، واحد فقط، فسوف نوقفها بلا تردد”.
في زمن الكورونا، انتصر العلم وتوارى المشعوذون والدجالون الذين يدّعون قدراتهم الخارقة على شفاء الأمراض بالتداوي عندهم وعند معابدهم.
أغلقت السعودية حدودها، وعلّقت شعائر الحج والعمرة التي يفد إليها الملايين سنوياً من كل فج عميق، واتخذت إجراءات صارمة يشار لها بالإعجاب، فرغم حجم مساحتها الكبير، وانفتاحها على العالم، فإنها تسجّل اليوم واحدة من أقل معدلات الإصابة بالفيروس.
بعد عشرات الآلاف المصابين ومئات الموتى بهذا الفيروس الوبائي، أعلن النظام الإيراني، أخيراً، يوم الأحد الـ15 من مارس (آذار) إغلاق المزارات الدينية بمدينة مشهد!
قبلها بيوم واحد فقط، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، حالة الطوارئ بالبلاد، وإيقاف الرحلات الجوية القادمة من أوروبا، بعد أن كان يقلل من أهمية الفيروس وانتشاره أسابيع طويلة، وأخضع نفسه للفحص بعد لقائه الرئيس البرازيلي ووفده الذي كان بينه بعض المصابين.
الحمق كـ”الكورونا”، لا يميز بين جنسية وأخرى!
في زمن الكورونا، تناسى الخليجيون مرارة الجيرة مع نظام إيران، فبادرت دولة الإمارات العربية المتحدة بإرسال شحنات طبية ومساعدات دوائية لإيران، وأجرى وزير خارجيتها الشيخ عبد الله بن زايد اتصالاً بنظيره الإيراني محمد جواد ظريف، يعزيه بما حلّ بالشعب الإيراني الجار بمحنة كورونا.
وكتب صحافي كويتي يعد من الملتزمين مهنياً، وما أندرهم، وهو داهم القحطاني تغريدة على حسابه بـ”تويتر”، يطالب العالم برفع الحصار الطبي عن إيران في هذه المرحلة، رأفة بشعبها، رغم أنه من أكثر المعادين سياسات نظامها بتغريداته وكتاباته.
في زمن الكورونا، تعلن الصين استعدادها لتقديم خبرتها المتراكمة، لمكافحة هذا الفيروس لدول العالم مجاناً.
في زمن الكورونا نقف إجلالاً وتقديراً واحتراماً للكوادر الطبية التي تمارس الإنسانية بتعريض حياة أفرادها لخطر الموت، دفاعاً عن الأحياء وحفاظاً على صحة الأصحاء، هؤلاء يذكّرونا بأهمية العودة إلى آدميتنا التي تفرّقها الطوائف والأديان والأعراق والألوان والمصالح والسياسات الرعناء.
شكراً لفيروسات الكورونا التي ذكّرونا، لاحظ التطابق بين الأحرف الأربعة الأخيرة بالكلمتين، يا لها من صدفة تهجئة مناسبة (ذكرونا – كورونا)، يذكرونا بأن الإنسان أخُ الإنسان في الإنسانية، وبأن التلاحم والتعايش والتعاون الإنساني يمكن أن تحوّل هذا الكوكب إلى جنة تحارب الأمراض والأوبئة بدوافع البقاء الجماعي، وبأن البقاء الوحيد هو ببقاء الجميع، والنجاة الوحيدة هي بنجاة الجميع من الأوبئة والأمراض المعدية الفتاكة التي لا تفرق بين إنسان وإنسان على أي أساس من الدين أو العرق أو اللون.
يقول فرانك سنودن، أستاذ تاريخ الطب والأوبئة بجامعة ييل الشهيرة، “كأنّ الأوبئة ترفع مرآة في وجه الإنسان لتذكّره بحقيقته، أي أنها انعكاس لعلاقتنا بأخلاقنا كبشر وعلاقتنا بالموت والحياة، وتعكس العلاقات الأخلاقية لدينا تجاه بعضنا كشعوب، وهو ما نراه اليوم في وباء كورونا”.
شكراً يا كورونا، فقد راجعنا بعض إنسانيتنا، وتوحدنا بوبائك، حيث عملت على أنسنتنا