الخطيئةالأخيرة
محمد عبد الجبار الشبوط
يتحمل رجال الطبقة الاوليجارشية الحاكمة، من شيعة وسنة وكرد، وفيهم بعض النساء، مسؤولية اعاقة بناء دولة حضارية ديمقراطية حديثة في العراق بعد سقوط النظام البعثي الدكتاتوري المتخلف عام ٢٠٠٣، ويشاركهم في ذلك الناخبون الذين منحوهم اصواتهم في انتخابات عام ٢٠٠٦ و ٢٠١٠ و ٢٠١٤ و ٢٠١٨.
وارتكب هؤلاء سلسلة من الاخطاء، التي اطلقت عليها المصطلح الذي استخدمه روسو من قبل وهو “عيوب التأسيس” التي فتحت الباب واسعا امام الفساد والفشل في الانجاز.
وكان من ابرز عيوب التأسيس في وقتها عدم تبني هدف وشعار اقامة الدولة الحضارية الحديثة، باي اسم كان.وفي وقتها، قام رجال ونساء بالدعوة الى الدولة الحضارية الحديثة منهم حسين العادلي وخير الله البصري وابراهيم الشبوط وعزت الشابندر وكاتب هذه السطور واخرون في اطار “التيار الاسلامي الديمقراطي”.
لكن اغلبية الناخبين من الشيعة والسنة والكرد فضلت الخيارات الفئوية وصوت الناخبون على اسس طائفية وعرقية، ولم يحصل “التيار الاسلامي الديمقراطي” سوى على حوالي ٦ الاف صوت.
وفهمتُ في حينها ان البيئة السياسية والاجتماعية والدينية لم تكن مهيئة لفكرة الدولة الحضارية الحديثة التي تبناها “الاسلام الديمقراطي”.
وتقاسم رجال الاوليجارشية جسم الدولة المفترضة على شكل اقطاعيات سياسية اقيمت بموجب محاصصة طائفية وعرقية وحزبية كانت حاضنة لمزيد من عيوب التأسيس منها: استبدال الديمقراطية بالمحاصصة التوافقية، والمواطنة بالمكونات، والدولة بالسلطة، والدستور بصفقات الكواليس، وعمليا غابت الحياة السياسية الديمقراطية، وانحصرت عملية صنع القرارات بعد محدود من الرجال بعضهم غير منتخبين اصلا وبعضهم لا يحتل موقعا رسميا في الدولة.
وقادت كل هذه العيوب الى الفشل وعدم قدرة الطبقة السياسية على تحسين نوعية الحياة بما يكفل الحصول على رضا الناس. وتدريجيا، بدأ المواطنون بالعزوف عن الدولة، واهتزت ثقتهم بالنظام السياسي، وكان من اهم مؤشرات ذلك عزوف اغلبية الناخبين عن المشاركة في انتخابات عام ٢٠١٨.
وكانت نتائج تلك الانتخابات الهزيلة سببا في حصول انتهاك جديد للدستور، وهو تشكيل حكومة عادل عبد المهدي خلافا للالية الدستورية المذكورة في المادة ٧٦. وحينما خرجت جموع كبيرة من الناس الى الشارع احتجاجا على سوء الاوضاع، ارتبكت الطبقة الاوليجارشية الحاكمة، وهربت من هذا الارتباك باستقالة حكومة عادل عبد المهدي لتقع بعد ذلك بسلسلة اخطاء توجتها بخطيئتها الاخيرة، ولا اقول الكبرى، بتكليف مصطفى الكاظمي بتشكيل الحكومة الجديدة، خلاف للدستور، وخلافا لمقتضيات الاصلاح. اعرف الكاظمي شخصيا، منذ اواسط تسعينيات القرن الماضي حين جاءنا شابا الى لندن، في مكاتب المؤتمر الوطني العراقي الموحد، وعملت معه لعدة سنوات في مجلة “الاسبوعية”.
وهو شاب وطني متحمس ذو اخلاق وهمة عمل، وقدرة ادارية معينة، لكنه لا يملك مؤهلات المنصب. ولم يخطأ الكاظمي في تولي المنصب، لكن اخطأ من كلفه بذلك، ووافق عل ذلك، وتوافق وراء الكواليس على تمريره في مجلس النواب.
وقد تشكل هذه الخطوة عيب التأسيس الاخير في سلسلة عيوب الطبقة السياسية التي ارتكبت نفس خطيئة مجلس الشيوخ في روما حين كلف اوكتافيان بالزعامة في سنة ٣٠ ق م، كما عرضته في مقالين سابقين.كان بمقدور رجال الاوليجارشية الحاكمة التكفير عن عيوبهم واخطائهم السابقة بتصحيح بوصلة العملية السياسية المنحرفة وتوجيهها صوب الدولة الحضارية الحديثة، باتخاذ خطوات واجراءات محددة بهذا السياق، منها، إن كان لابد من تشكيل حكومة انتقالية تخلف الحكومة المستقيلة، تكليف فريق عمل قادر، علميا وثقافيا وفكريا، على قيادة سفينة الاصلاح السياسي صوب الاهداف المطلوبة، بذهنية ديمقراطية منفتحة وغير منحازة وغير شعبوية، على ان تكون هذه اخر خطوة يقومون بها قبل الانسحاب من الحياة السياسية. وهذا ما لم يحصل للاسف.