السياسة عبر المنصات الرقمية
علي حسن الفواز
ما من شك في أنّ تاريخ السياسة الدولية ارتبط بالحروب الصاخبة، وبالاسرار التي تخفيها تلك الحروب، فكانت خطب الرؤساء، لها منصاتها، ولها جهوريتها، فكانت اللقاءات والمؤتمرات والوجوه المتقابلة هي الفيصل في اعلان الحرب أو اعلان السلم، بدءا من حروب الحلفاء وسلم “يالطا” وانتهاء بحروب المنصات الاميركية، عبر المنابر الرئاسية أو عبر منابر الأمم المتحدة.
لكن ماجرى خلال “سنة كورونا 2020” غيّر معادلات وخطط وبرامج وتوجهات تلك السياسة، فغاب الحضور الرئاسي والملوكي، وغابت معه كثير من مظاهر الوجاهة، والاحتفاءات الباذخة، وحتى الزوايا التي تتطلبها الحوارات والجلسات والصفقات، ليكون الحضور عبر الديجيتال، باردا، وفاقدا للحميمية، حيث تحولت المنصات الرقمية الى اليافطة والسوق والمنبر والخطاب، وهي المجال الفاضح لخفايا المسكوت عنه، حيث لا يمكن التستّر على الوجوه والاتفاقات والحوارات، فالسياسة بوصفها فنا في ادارة المصالح والقوة لم تعد تُعنى كثيرا بلعبة الحضور الرسمي، واستعاضت عنها بفضاءات افتراضية لها طعم السياحة والتكنولوجيا، وتقليل جرعات الولاء للهويات القديمة.
الاجتماع الاخير للأمم المتحدة، القى اغلب الرؤساء والملوك خطبهم عبر “المنصة الالكترونية” حتى بدت وكأنها خيار هادئ لادارة السياسة، ولمناقشة اخطر القضايا التي تعاني منها دول العالم، وهي ورقة أسقطت من يد الولايات المتحدة قدرتها على التحكّم بمنح “الفيزات” لبعض الذين يشاركون في الاجتماع، وهو ما اتاح لخصومها أن يمارسوا حقهم في اثارة القضايا الخلافية، وحتى التفكير بصوتٍ عال ومهاجمة اميركا، واتهامها بالسطوة والبلطجة، وفي فرض سلطتها على قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة، لاسيما في ما يمسّ قضايا اشكالية مثل قضية فلسطين والتطبيع، وقضية الملف النووي الايراني وفرض العقوبات عليها، وقضايا فنزويلا وسوريا واوكرانيا واخرها قضية بيلاروسيا.« موت المكان” السياسي، قد يكون علامة سيميائية لتغيير تاريخ الوقائع، ولإيجاد فضاء جديد لممارسة طقوس الخطاب السياسي، حيث يكون المكان الافتراضي مجالا تعبيريا للمواجهة المفتوحة، ولاعادة النظر في مصير العالم الذي تحكمه الأمكنة المركزية، والسياسات والاقتصادات المركزية، والتي كثيرا ما تهيمن عليها الولايات المتحدة، عبر سلطة المكان الامبريالي، وعبر سلطة الدولار، وهي ثنائية معقدة من الصعب التخلص منها بسهولة، فضلا عن خيار سياسة المنصات الرقمية، اعطى لحرب الاسواق والاعلام ايقاعا آخر، لاسيما بين الصين والولايات المتحدة، إذ باتت المنصات مجالا عموميا للفضح ولتعرية السياسة من اسرارها وغوامضها، وكأنها اسهمت في جعل العالم مكشوفا وعاريا ومفتوحا على حروب قد تكون افتراضية ايضا.