السلم الأهلي وتغابن النخب!!
مازن صاحب
مازال المشهد السياسي العراقي اليوم أقرب الى مفهوم “التغابن” الوارد في القران الكريم، قال: القرطبي – رحمه الله – في تفسيره:
وسمي يوم القيامة بيوم التغابن لأنه يغبن فيه أهل الجنة أهل النار، أي أن أهل الجنة أخذوا الجنة، وأخذ أهل النار النار على طريق المبادلة، فوقع الغبن لأجل مبادلتهم الخير بالشر، والجيد بالرديء، والنعيم بالعذاب، يقال: غبنت فلانا، إذا بايعته أو شاريته فكان النقص عليه والغلبة لك، وكذا أهل الجنة وأهل النار.لست بصدد التفسير الفقهي لمعنى الكلمة ومفهومها بقدر دلالة فهم الدنيا بعلوم الاخرة، لاسيما وان اغلب الإسلام السياسي اليوم في جميع المكونات التي ظهرت فجأة سطوتها ما بعد 2003 وكأن هذا الجمع ” المبارك” من جماعة التكليف الشرعي بمفهومي البيعة والتقليد يتغابنون ليس في العدالة والانصاف لذلك المواطن الذي انتظر طويلا اليات التغيير حتى وصلت لهم على طبق من ذهب الاحتلال الأمريكي، وهم اليوم يتغابنون فيما بينهم على اليات ديمومة مفاسد المحاصصة فيما يعلنون محاربة الفساد ونهج الإصلاح ما استطاعوا اليه سبيلا!!
ما بين هذا وذاك تظهر المعضلة في الحفاظ على بيضة هذا التغابن حتى ظهرت مجاميع من النخب التي غزت الفضائيات بالتحليل بمنهج الأبيض والأسود، فما يقوله ” تاج الراس” وخطوطه الحمراء ماضَ في سرديات هذه التحليلات الفجة والمملة ، التي سرعان ما تتغير بتقلب الأوضاع ، مثال ذلك ان التعامل مع الاكراد يتطلب قصف مواقع ( إسرائيلية) في أربيل ، فيما دعاة تاج الراس اليوم اقرب الى الجلوس على طاولة التفاوض لفرضيات التغابن مع خصوم اليوم الذين كانوا بالأمس حلفاء مكون واحد، وذات الامر يتطابق في التشخيص عند التعامل مع قيادات السنة الذين اتهموا بشتى النعوت ، لكن حينما تحق الحقيقة يكون التحالف معهم أولى بالتغابن مع هذا وذاك فقط لضمان تقاسم كعكة السلطة .في كل هذا الواقع الذي وصل الى ادنى مستوياته ما بين الفكر والشعار والتطبيق، تبقى نظرية إدارة القطيع للعالم البريطاني هاملتون هي السائدة، ومظاهرها واضحة في تحشيد التظاهرات فقط لإظهار قدرات التغابن ين الفرقاء على مغانم السلطة فيما يقف على التل الكثير من النخب الاكاديمية والمثقفة خشية الانزلاق في مطب هاوية يوم الحساب الدنيوي عندما يتكرر مشهد الهيمنة من طرف واحد على المشهد السياسي الكلي ، هذا ما حصل في تموز 1958 و1968 وتكرر في 1979 ، ومقدمات حسم الشراكة في تغانم السلطة اليوم تجعل السلم الأهلي امام تغابن حقيقي حتى لتلك النخب من الكفاءات التي تقف على التل بانتظار حسم المشهد وفيهم من يتنظر الغائم مثل مقاتلي معركة احد، وفيهم أيضا من يمتلك عقلية خالد بن الوليد لتحويل الهزيمة الى غنيمة.
لا اعتقد ان مهمة النخب من الكفاءات التظاهر من اجل لقمة الخبر كما يفعل الكثير من المندفعين اليوم في كل خطوط المواجهة، لكن المهمة الأخطر والمطلوب ان يتحدد فيها راي جمعي لهذه الأغلبية في تجاوز صمتها وإظهار موقفها من السلم الأهلي المجتمعي، هذا السلم الذي تؤثر عليه أنماط سلوكية من شريحة وعاظ مفاسد المحاصصة وهي تتفاعل مع الراي العام من على شاشات القنوات المختلفة ليس لإظهار الحقيقة للمواطن بقدر تضليل هذه الحقيقة بمسميات اما غيبية او ربطها بمسميات مقدسة في عالم سياسي مدنس او تغابن دنيوي فاسق لا علاقة له باي مسمى الا بالقدر الذي يدفع عنه لشراء ذمم هذا او ذاك ، فضلا عن وجود سماسرة السياسة الذين بإمكانهم تحويل مجرم محكوم عليه بجرائم إرهابية الى مجاهد سياسي والعكس صحيح، في هكذا موقف بات مطلوبا من هذه النخب النزول من على التل السياسي العراقي واعلاء صوت الرفض لهذه المهزلة في تغابن الكل مع الكل بلا أي رأفة او رحمة وهذا يتطلب ان يبادروا الى نظم امورهم في اعلان مبادئ مجتمعية واقتصادية ، تحمل رؤية ((عراق واحد وطن الجميع)) وطرحها بقوة امام هذه القوى السياسية لإعادة تنظيم العملية السياسية برمتها ، عنجها فقط سيكون لهذا الصوت دوي الانفجار الأكبر على كل معاقل الفاسدين وجلاوزتهم ، ومن يقول ان لا احد يستمع لكلام النخب انما هي مهزلة عقول، فالحراك المجتمعي يحتاج عقلاء القوم لا أصحاب المصالح والاجندات الحزبية، والا فان ذات النخب ستقع غدا في ذات التغابن .. ويبقى من القول لله في خلقه شؤون!!