الدحدوح.. أيوب زمانه
الدحدوح.. أيوب زمانه – ياس خضير البياتي
ما أشبه اليوم بالبارحة: (صبر أيوب) عليه السلام، و(صبر الدحدوح) سلَّمه الله، وإن اختلف الزمان والمكان والقدْر؛ فكلاهما يحملان همًّا متشابهًا في التحمل لأقصى درجة؛ من أجل الإيمان بـ(قضية) الحق، والتذكير بثوابتها، ومواجهة كل تحديات البلاء والمحن ومصائب الدنيا الطافحة بالأنكاد والأكدار. والابتلاء معبر شاق، تعب فيه آدم، ورمي في النار الخليل، وأضجع للذبح إسماعيل، وألقي في بطن الحوت يونس، وبيع بثمن بخس يونس، وقاسى الضر أيوب.
ومع ذلك فان البلايا تُظهر الرجال. أيوب، عليه السلام، تحمل المرض، كما ذكرت بعض الروايات، نحو ثمانية عشر عامًا، والدحدوح تحمَّل الصدمة الكبرى، وصبر لمّا فقد معظم أهله، وهو رابط الجأش، وتحدى نيران الصواريخ والقنابل بشجاعة، وهو على الهواء مباشرة. وعندما جاءه الناس لتأدية واجب العزاء له في فقدانه لأحبته، وفلذات كبده؛ قال لهم :(يعاقبوننا بأولادنا؟ معلش … نحن ماضون، ومستمرون في عملنا على الهواء مباشرة، ولا شيء يُوقفنا!).
أصبحت كلمة (معلش) علامة مسجَّلة باسمه، وهي ترمز للتحدي والثبات، ورباطَة الجأش، ومواجهة التحديات بهدوء وعزم ثابت لا يتزحزح. صار مضرب المثل في الابتلاء في عصرنا الحديث؛ فهو أبو البلايا، وشعار المبتلين، ونموذج للصابرين على المصيبة المركَّبة. وصبره الأسطوري وهدوءه وجلده ورباطة جأشه، هي ماركات فلسطينية في هذا العصر.كان قدَر (الدحدوح) أن يُبتلى بالنكبات والأحزان والأكدار والمصائب والبلايا المتتالية؛ فاجتمعت معه أنواع الصبر، وياله من صبر!، وهو يفقد معظم عائلته، ويودِّعهم بقبلاتٍ على الجبين، ونراه ممسكًا بأصابع ابنه البكر الصحفي الشهيد(حمزة)، وكأنه يُداعبها بفطرة وعفوية، وألم دفين، في مشهد تنشقُّ له صدور من لهم قلوب! وفي عبارة تُعادل مليون كلمة نكتبها؛ حيث قال: (حمزة فلذة كبدي كان كلي؛ وليس قطعةً مني)لم تنحن جبهته بزلزال الموت، وفواجعه المتلاحقة. ورغم أنه أب، وهذه الفاجعة تزلزل أي أب؛ غير أنه يحمل قضية الأرض والوطن. وكما قال الدحدوح، أيوب عصره: العدو الإسرائيلي يشبع بالحقد، ونحن نسكب الدموع، ولكنها دموع الكرم والإنسانية، وليس الهلع والإهانة كما يتوقعون.وائل الدحدوح، نقل صوت فلسطين على مدى عقود، ولولاه وزملاؤه لغُيِّبت الحقيقة، ولحُجب عن الناس معرفة جرائم وتوحش الاحتلال القذر بحقده المنهمر على الخير والبشر، ولتضاءل التفاعل.كان ولا يزال يعيش حربًا عجيبة، وكأنها بين جيش بأكمله وشخص أعزل. لاحقوه بكاميرات الطائرات المسيَّرة، وحاولوا قتله، وعندما فشلوا، انتقموا منه بعائلته وأطفاله؛ رغم أنه لا يمتلك سلاحًا فتاكًّا سوى كاميراه وميكرفونه صادحًا بالحقيقة؛ فهو المثال الساطع لصوت الإعلامي الذي يكشف الجريمة، ويُرِي كلَّ العالم حقيقة الرواية الصهيونية المزيفة.فخرك أبا (حمزة) أنك كسبت قلوبَ العرب، قبل قلوب الفلسطينيين، صرتَ لهم مصدرًا إعلاميًّا متوهجًا بجمرة الخبر الحر والحدث الجلل، فاستوليت على القلوب والعقول، وكأنك مؤسسةٌ إعلامية لوحدك، فكسبت المثقف والرجل البسيط والفلاح العربي، وفقراء الشوارع والحارات…. والكبار والأطفال. وفخرك أن يُناصرك الناس من المدن والأرياف، وأن يُجلَّك ويُعظمَك صعيديٌّ مصري من أعماق (أم الدنيا) في مقطع فيديو مثير وصريح ومؤثر، ولا يتذكرك (كاتب مشهور)، مريض بالنرجسية، أو (صحفي لامع)، ينام على سرير من الحرير فوق برج باريس!يقول لك الصعيدي المصري في هذا الفيديو القصير: أبا حمزة من أين أتيت بهذا الصبر والثبات، كيف تشيّع ابنك بالنهار وتخرج في الليل لتغطي الأخبار؟!. قل لي هل أنت من نفس الطينة التي ولدنا منها. من أنت مستحيل (زينا)، أكيد أنت من عصر الصحابة لكي تعلمنا الصبر؛ لأننا ياوائل في زمن الخنوع والخضوع، ولأن الصحافة عندنا اليوم تكييف وتحريف، وخبر انفصال فنان عن فنانة؛ بينما أنت جعلت الكاميرا أقوى من الصاروخ النووي، وصوت الميكرفون أشد من صوت المدافع. كنت أهل غزة وأنت غزة.
نعم، (الدحدوح) يشبه غزة في صمودها وصبرها وتضحياتها، هو غزة اجتمعت، بقضها وقضيضها، في هيئة إنسان، وكأنه لا يمتلك قلبًا واحدًا مثل البشر؛ بل هو يحمل كل قلبٍ فلسطيني مبرمج على تحمُّل الفواجع. هو الضمير الحي في قافية الصمود والصلابة، والمبتدأ والخبر في جملة (الصحافة حرة).هو صحفي الجرح الفلسطيني، شق قلب عدوه بصوته وكاميراه، وكأنه يقول للاحتلال بصوت محمود درويش: (أيها العابرون على جسدي، لن تمرّوا، أنا الأرض في جسد. لن تمرّوا، أنا الأرض في صحوها. لن تمرّوا).
كأن صوته أمضي من السيف، وأقوى من عنجهية جنود الاحتلال.كان حضوره شجاعًا بين الرصاص والأنقاض والمآسي، مثل بندقية لا تنفد ذخيرتها أبدًا، فهو القنديل المضيء بالنار في زمن النوائب والنكبات والانتكاسات.
فبقوة هذا الحضور اليومي، وتسجيله للحقيقة، وصبره الخارق لمس قلب المشاهد، فتعاطف معه، في مشهد نادر الحدوث. فكان صوته، ولا يزال، يُلهم الناسَ بالحقيقة، ويُعبّر من خلاله عن الحرية والعدالة. (يا ويلنا من عيش العبيد، فهل نعود؟ – سميح القاسم).لقد صنع من فلسطين أسطورة الزمان؛ وحكى عن لغزها وسط النار والدخان والبارود والتراب: إنها مهما اُقتِيدت بضراوة النار والحديد؛ فإنها أبدًا لن تفرط، قيد أنملة، في صبرها وثباتها على أرض الحرية والخلاص.لا نعزيك أيها الصابر الشجاع، فنحن جميعًا معك؛ وجعك وجعنا، وعائلتك عائلتنا وأولادك أولادنا، ومصيرك مصيرنا؛ فأنت أداة الوطن المفقود، الذي يصبح في الغياب فردوسًا مفقودًا.وقدرك أن تُولد فلسطينيًّا (سجِّل أنا فلسطيني)؛ لتصبح لسانًا لهذه الأرض، وتَنذر نفسَك وعائلتَك للوطن السليب، وتُشعل القضيةَ بالصورة والصوت. لهذا نريدك أن تبقى شاهداً على القصة والحدث والمعاناة والقضية المنسية، ولكن حذارِ من غدر الغادرين يا زميلي وائل، فأنت بين نار الأشرار الحاقدة.