الحفر في دهاليز التاريخ
كفاح محمود كريم
في مجتمعات “اللا دولة” وبغياب قانون متفق عليه لتفاصيل الحياة، يتقزّم المجتمع وينكمش إلى “ملجئيات” تحتضنه وتوفر له الأمان الذي يفتقده بغياب الجامع الوطني، تلك الملجئيات الجزئية تكمن في نظام العشيرة وقائدها، والدين والمذهب ومجموعة المخلصات الغيبية ورموزها، والملجأ الأخير هو المال الذي وصفه المفكر العظيم علي بن أبي طالب بأنه وطن في الغربة وفقدانه غربة في الوطن: ” الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة”.
وفي ثلاثي الملجئيات الفكرية (العشيرة والدين والمال)، يهرب ويلجأ النازحون إلى دهاليز التاريخ في واحدة من محاولات ( تسخين الجمجمة ) كما يطلق عليها المصريون في تحشيشاتهم سواء الفكرية أو الدخانية،
والتاريخ كما هو متداول ومعروف مجرد تسجيل أحداث من زاوية الشاهد وثقافته ومدى قرّبه وبعده عن الحدث، بل ومدى تعاطفه أو معاداته لتفاصيله وشخوصه، ولذلك نرى اختلافات حادة في توثيق أو تأْريخ ذات الحدث ومن قبل مدونين عاصروه أو كانوا جزءاً منه ومن تفاعلاته.
وتبقى عملية البحث عن الحقيقة في تلك الأوجه للمدونات التاريخية للأحداث، أسيرة رؤى مختلفة وأمزجة متناقضة، بل ومواقف معادية أو متحالفة مع الحدث وعناصره وأسبابه ومسبباته، وهي بالتالي تحتاج إلى أدوات ووسائل غاية في الدقة والمهنية والتحقيق، لأن الحفر في التاريخ بمعاول مثلومة، ربما تقودنا إلى دهاليز معتمة، أو تفاجئنا بأحداث تعيد ذاكرتنا إلى ما لا يشتهيه البشر، وعلينا أن نتذكر دائمًا أن التاريخ ليس صفحات مقدسة أنزلتها الملائكة من عند الرَّب إنما هي أحداث وثّقها بشر مثلنا،
تتحكم فيه الغرائز والعواطف والحب والكره والانفعالات، وهو في الآخر يكتب من خلال زاويته التي ينظر منها إلى الأحداث، على خلفية معلوماته أو مشاعره تجاهها، وكيف يراها حسب تلك الميول، ومن هنا ندرك أن التاريخ ليس كتاباً مقدساً لا يخضع لتلك العوامل، وهو بالتالي كما يراها كاتبها في تلك اللحظة التي وثّقها، ولذلك علينا أن نتوخى الدقة في قراءة تلك الأحداث والاهم قراءة صاحبها الذي دونها؛ لذلك أرى أن
الطريق الأقصر في بناء مجتمعات حديثة بعيداً عن دهاليز أولئك الذين سجلوا تلك الوقائع تحت ضغط أمزجتهم، سواء أكانت تلك الصفحات معتمة أم مضيئة، أن نؤسس بنائنا على العلم الحديث والاستنتاجات بثقافة نقدية لكل ما سطره الأولين في توثيق الأحداث التي أنتجت هذه المجتمعات لكي نصل إلى مجموعة معطيات نبني على أساسها مجتمعاتنا الحديثة،
وكلما تعلمنا أكثر، تعلم أبناؤنا وبناتنا أكثر، دونما العودة الببغائية والصنمية إلى التاريخ وصفحاته، فمن يبني حاضراً جميلاً لن يحتاج العودة إلى الماضي لكي ينظر إلى المستقبل.