الجريمة والصدمة الإعلاميَّة
د. محمد فلحي
شهدت الأيام الماضية جرائم وحشية تنذر بخطر متزايد يهدد السلم الاجتماعي، في ظل بيئة اتصالية تفاعلية متأزمة تجعل من تلك الجرائم قضايا تشغل الرأي العام، في غضون ساعات، ترافقها تغطية إعلامية مثيرة لا تلتزم في الأغلب بمعايير دينية أو قانونية أو نفسية أو اجتماعية، وتصريحات وحوارات مع شخصيات(حمّالة الحطب)، فتبدو الأحداث أخطر من حقيقتها، وتكون الصورة أكبر من الواقع، وتصبح التغطية أوسع من المشهد، وهو ما يؤدي إلى صدمات نفسية وقلق وتوتر في المجتمع.جرائم بلا حدود، عابرة للحواجز، تلاحق الناس في بيوتهم وتثير اهتمامهم ومتابعتهم، طوال اليوم، ففي عناوين الأخبار المفزعة، باريس:(طالب ينحر استاذه لأسباب دينية!)، القاهرة:(فتاة المعادي ضحية التحرش أم السرقة؟!)، عمّان:(فتى الزرقاء فقد يديه وعينيه نتيجة الثأر العشائري!)، بغداد(إمرأة ترمي طفليها في نهر دجلة)، و(ما سر انتحار زوجة الفنان؟!)، و(من ارتكب مجزرة الفرحاتية)؟!هذه العناوين تحولت إلى قصص إخبارية متلاحقة، تتداخل فيها العناصر الخبرية وتدور حولها الاستفهامات الستة، وتتقاطع معها التحليلات السياسية والاجتماعية، وتغيب عنها في كثير من الأحيان، الحقائق والمعلومات، فالسرعة في الانتشار قد تبدو مغرية، لكن المصداقية ضحيتها الأولى!لم تعد سرعة الاتصالات ووفرة المعلومات كافيتين لتوفير تغطية موضوعية متزنة في ظل سباق مفتوح بين متنافسين شرسين، لا يتورعون عن سحق الكثير من النفوس تحت أقدامهم بلا رحمة أو تأنيب من ضمير او رادع من قانون، فكل جريمة جديدة تمثل(مادة ساخنة) لصناعة صدمة إعلامية، ونشر صور مرعبة تعد فرصة مناسبة لحصاد وفير من التعليقات المتضاربة والاعجابات المتناقضة، وتحقيق(الطشة) الانتشارية، التي تضيع وسط ضجيجها أصوات العقلاء، وترتفع عندها صرخات المحرضين الدخلاء، حيث يمكن النظر إلى أي واقعة من زوايا مختلفة، فتصبح الحقيقة مجرد وجهة نظر!في ظل غياب المهنية الإعلامية، في أغلب المؤسسات، وتأخير تشريع (قانون تنظيم المعلومات) الذي ظلموه بتسمية مشروع(قانون جرائم المعلوماتية) سوف تظل الساحة الإعلامية غير خاضعة لقواعد واضحة، خاصة في تغطية الأحداث الخطيرة، التي تقتضي الحذر والحكمة والدقة والموضوعية، في نشر تفاصيلها وكشف اسرارها وتداولها، عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وذلك خشية العواقب النفسية والاجتماعية التي ترافق عادة الصدمات الإعلامية، من دون رقيب او حسيب!أثمن نصيحة كنت أقدمها دائماً لطلبتي من الإعلاميين الشباب، لا تتسرعوا على حساب الحق والحقيقة، وهو ما يمكن أن نستخلصه من معاني هذين البيتين الشعريين:(لا تعجلنَّ لأمرٍ أنت طالبُه فقلَّما يدركُ المطلوبَ ذو العَجلِ فذو التَّأنِّي مصيبٌ في مقاصدِه وذو التَّعجلِ لا يخلو عن الزَّللِ)!