التجنيد الإلزامي للواجهة من جديد هل يفرض بالعراق؟
تميزت الحياة العسكرية في العراق بالشدة والتدريب المستمرين، ورفع كبار ضباط الجيش شعار “عرق التدريب يقلل من دماء المعركة”، لكن الجيش العراقي من أكثر الجيوش العربية نزفاً للدماء في العصر الحديث.
تأسس في السادس من يناير (كانون الثاني) 1921 بتعداد فوج أطلق عليه مؤسسو الدولة العراقية الملكية “فوج موسى الكاظم” بقيادة الفريق جعفر العسكري الذي سمي أول وزير للدفاع في الجيش العراقي.
تطور الجيش اقترن بتطور الدولة
وتطورت المؤسسة العسكرية سريعاً نتيجة حلم المؤسسين الكبار أن ينشئوا دولة قوية بسياج محكم من القوات المسلحة، وكان معظمه من المكلفين بخدمة العلم الإلزامية، ولفترات طالت أو قصرت وفق ظروف البلاد والتحديات التي واجهتها، وكان إعداده على يد البريطانيين، يشاركهم قادة عراقيون تخرجوا في الـ”أستانا” العثمانية، لكنهم خرجوا عليها لينالوا استقلالاً وطنياً وصفه المؤرخون بالأسطوري، ليستعيدوا ولاية الموصل التي طالب بها العثمانيون، وينصبوا ملكاً هاشمياً حجازياً هو الملك فيصل بن الشريف حسين ملك العرب وقتها، الجندية العراقية، كما يصفها اللواء عبد الوهاب القصاب مُقدماً لزميله في الحرس الجمهوري الفريق رعد الحمداني، في كتابه “قبل أن يغادرنا التأريخ”، أنها “مهنة وشرف ما بعده شرف، والجندية العراقية مميزة، فهي وريثة أمجاد موغلة في القدم، كأنها أسهمت بصياغة شخصية العراقي المعروفة، بأنفها وإبائها اللذين فرضا سمات تجمع بين العراقيين بكل مشاربهم وتنوعاتهم” .
حل الجيش أكبر تحد واجهته الدولة العراقية
وعلى الرغم من طول عمر المؤسسة العسكرية العراقية، وإسهامها الوطني والتاريخي في بناء الدولة والدفاع عنها، فإن حدثاً خطيراً تعرضت له هذه المؤسسة بحل الجيش العراقي في عام 2003، من قبل الحاكم المدني بول بريمر بمشورة عراقية أكدها هو مراراً وتكراراً، بأن حل الجيش جاء استجابة لمطالب قوى عراقية، كانت معارضة لنظام البعث، وظنت أن الجيش العراقي سينقلب عليها في لحظة ما.
ويرجح أن قرار إلغاء التجنيد الإلزامي قد حظي بموافقة شعبية، لا سيما وأن الحروب التي خاضها نظام صدام حسين منذ الثمانينيات ولدت كرهاً شعبياً، لا سيما من سوق المجندين إلى الوحدات لفترات طويلة خارج فترة الخدمة الإلزامية المقررة، التي تتراوح بين ستة أشهر للمتخرجين في الجامعات إلى مدة أقصاها سنة ونصف السنة لسواهم، في وقت استمرت خدمة مواليد الخمسينيات والستينيات أكثر من 10 سنوات في الإلزامية.
فوضى النظام والعقيدة
وبُعيد سقوط النظام في 2003، أصبح الانتساب إلى المؤسسة العسكرية طوعياً، في حين استأثرت القوى الحاكمة بمنح الرتب والمناصب، لأتباعها، وظل الجيش أسير أهواء الساسة وحساباتهم، وضمت إليه فصائل وألوية جديدة و قوات “البيشمركة” الكردية، و “الحشد الشعبي” كقوات نظامية رسمية في ما بعد بقرار صوت عليه البرلمان، وتدار كلها من القائد العام للقوات المسلحة، رئيس الوزراء، وفق الدستور.
وتسببت عدة تحديات واشكاليات بضعف فاعليته، وفقدان القيادة والسيطرة فيه، كما حدث خلال سيطرة تنظيم “داعش” الارهابي عام 2014 على ثلث البلاد، باعداد صغيرة قياساً إلى تعداد الجيش العراقي، والشرطة الاتحادية، والحمايات الخاصة آنذاك، التي تزيد على 100 ألف منتسب من القوات المسلحة في الموصل، ما استدعى فرض “الجهاد الكفائي” من قبل المرجعية العليا المتمثلة في السيد علي الحسيني السيستاني، التي كانت وراء تشكيل “الحشد الشعبي” الذي اشترك في القتال بجانب القوات المسلحة العراقية ضد “داعش” بعقيدة معروفة، وتكبد عشرات آلاف الضحايا مقابل تحرير جميع المدن.
اتساع هوة الخلاف المجتمعي وظاهرة البطالة
جيش المتطوعين لمقاتلة “داعش”، أعاد للأذهان ضرورة فتح أبواب الخدمة الإلزامية، لفرض صيغة موحدة للشعب للتدريب على السلاح بهدف إلغاء الفوارق الطبقية والمذهبية والطائفية والمناطقية، وتوحيد المجتمع في ساحات التدريب.
أسئلة من دون حل
وسط هذه الأجواء، رأى الكاتب حازم فرحان، بحسب تقرير للأندبندنت، أنه “لا توجد أي حلول للسيطرة على الشباب إلا عن طريق الخدمة الإلزامية بعد التخرج في الكليات أسوة بما تقوم به بعض الدول، التي تتيح للشاب دخول أي كلية يرغب بالتقدم إليها بعد الانتهاء من الخدمة الإلزامية، مقابل راتب بسيط، فنحن نعاني من مشكلة شباب خارج السيطرة”.
وإقرار قانون الخدمة الإلزامية، مقابل امتيازات تشجيعية مناسبة، مع توظيف هؤلاء المجندين، وهم في الخدمة بمشاريع البناء والإعمار، يؤيده السياسي المستقل حسن العبادي الذي يطالب بتشريع قانون جديد للخدمة الإلزامية قائلاً، “نرى في مقترح إقرار قانون الخدمة الإلزامية الذي حظي بتأييد الجميع خطوة مهمة لإصلاح أبنائنا وتحملهم المسؤولية، لكن من المهم البحث عن آليات تحقق هذا الهدف عن طريق التنسيق مع أعضاء البرلمان للضغط عليهم وإقراره بقانون”.
لكن السياسي المستقل علي الأوسي يعترض على فكرة الخدمة الإلزامية بحجة “أنها ستكرس عسكرة المجتمع، وتحوله إلى مجتمع عسكري، لكن البديل الصحيح أن تعمل على تنميتهم وتدريبهم وتشغيلهم بعد أن تعيد فتح المصانع لتتاح فرص العمل لهم “.
ويشاطره الرأي النائب السابق فتاح الشيخ قائلاً، “لا يمكن إعادة الخدمة الإلزامية في ظل وجود أحزاب حاكمة متسلطة تريد بقاء حكومة ضعيفة، لا سيما الفصائل التي تحمل السلاح والكتل ذات الأجنحة المسلحة”.
مطلب أميركي
ويرى الكاتب عباس الموسوي، أن “قرار إلغاء الخدمة العسكرية لم يكن قراراً عراقياً بل كان مطلباً أميركياً وفي الخفاء إسرائيلياً، وبسبب انهيار المنظومة العسكرية عام 2003 تم الاتفاق على الإلغاء”، مضيفاً، “أما إعادة الخدمة، فكلنا معها بضوابط جديدة، لكنني لا أتصور أن يستطيع أحد إعادة الخدمة بهذا البرلمان والوضع السياسي الحالي”.
وفي سياق متصل، يقول الكاتب فاضل علي هارف، “لو عادت الخدمة الإلزامية فإنها ستكون أكبر باب من أبواب الفساد في العراق”، مضيفاً، “التسرب من الخدمة وعدم أدائها من قبل الميسورين، سيفتحان الأبواب للرشى، وغض الطرف عن الدوام مقابل أموال”.
ويؤكد الكاتب السياسي حيدر الموسوي أن “قرار الإلغاء أتى بموافقة معظم قيادات الكتل والأحزاب المعارضة للنظام السابق قبيل عام 2003، مع تبنيه من قبل جي كارنر الحاكم الأميركي بداية الاحتلال”.
ويرجح عدد من النواب أن إعادة الخدمة الإلزامية من شأنها أن تؤدي إلى إعادة صهر المجتمع من جديد بعيداً عن الطائفية والفئوية، وتقود للوحدة الوطنية، لكن أحزاب “الإسلام السياسي” لا تريد ذلك لأنها تلعب في ساحة الصراع المذهبي لتحقيق مآرب سياسية، كما يشير إلى ذلك النائب ظافر العاني، وفقا للتقرير.