البابا في العراق.. بين معاني القداسة وجدل السياسة
كما هو متوقَّع فإن تأكيد زيارة البابا فرنسيس عاهل الفاتيكان للعراق أثارت زوبعة من ردود الأفعال المتنوّعة داخل العراق، بل شجّعت الكثيرين على كتابة قصائد من الشعر الشعبي، لن يستطيع البابا فهم لهجتها المحلية بكلّ تأكيد، نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، كتعبير مرح عن حالة الاهتمام الكبير بالزيارة الاستثنائية، التي تُعَدّ الأولى لزعيم من الكنيسة الكاثوليكية في العالم إلى مهد إبراهيم، أبي الأنبياء.
حسب المطلعين والمقرّبين من أجواء الفاتيكان، فإن هذه الزيارة لم تكُن لتجري لولا الإصرار الشخصي من البابا فرنسيس، بعد أن تأجلت لعام، على الرغم من كلّ المحاذير الأمنية، في بلد يشهد بشكل معتاد الكثير من الحوادث الأمنية، لعلّ منها قصف أهداف تخصّ المعسكرات التي فيها الأمريكان، بالإضافة إلى محيط السفارة الأمريكية في بغداد. وكان آخر هذه الحوادث القصف الذي تعرّضت له قاعدة عين الأسد غربيّ العراق في الأسبوع الماضي.
يحقّق البابا فرنسيس بهذه الزيارة حلماً قديماً للبابا الراحل يوحنا بولص الثاني، الذي كان قد أعلن في أواخر عقد التسعينيات من القرن الماضي عن نيّته إجراء زيارة، تشبه الحجّ إلى بيت إبراهيم في أور الأثرية بالقرب من مدينة الناصرية جنوبي العراق.
زيارة مسيحية
البابا أعلن في كلمته الفيديوية القصيرة الموجَّهة إلى الشعب العراقي أنه “سيحجّ” إليهم، مستذكراً آلام هذا الشعب عبر الحروب والصراعات الماضية، وأنها زيارة محبّة وسلام، ولكن بما أنه الحبر الأعظم لأمة مسيحية من مليار ومئتَي مليون إنسان حول العالم، فإن هذه الزيارة/الحجّ تستهدف المجتمع المسيحي في العراق بدرجة كبيرة، الذي تقاسم، ولا شكّ، المحن والآلام مع أبناء المجتمع العراقي المسلم طوال العقود الماضية، ولكنه عاش معاناته الخاصّة أيضاً، خصوصاً بعد عام 2003، وانهيار الدولة وانفلات الأوضاع الأمنية، فتعرّض العديد من العوائل المسيحية للتهجير.
لقد انخفضت أعداد المسيحيين بشكل كبير في العراق على مدى عقدين تقريباً، ولكن لا تتوفّر إحصائيات دقيقة عن أعداد المهاجرين، فحسب الباحث في شؤون الأديان والأقليات سعد سلّوم، فإن الطوائف المسيحية الأربع عشرة في العراق تتحفّظ على ذكر الأعداد الدقيقة للمهاجرين، لسببين: الأول نفسي، فرؤساء هذه الطوائف لا يريدون بثّ الإحباط في نفوس أبناء رعيّتهم، ويحاولون تقليل الأعداد الفعلية لتعزية نفوس أولئك الذين ما زالوا يعيشون في العراق.
أما السبب الثاني فهو سياسي، فالتناقص في عدد مكوّن ما سيغيّر حجمه الاجتماعي ثم تأثيره السياسي، وهذا ما لا ترغبه الزعامات السياسية والدينية للطوائف المسيحية في العراق.
مع ذلك، يجازف سلّوم بالقول إن العدد التقريبي للمسيحيين في العراق اليوم يتراوح من 200 إلى 250 ألف نسمة، من مختلف الطوائف، ولعل أكبر طائفة منهم هم الكلدان الكاثوليك، الذين تُقدَّر نسبتهم بحدود الـ80 بالمئة من عدد المسيحيين الكلّي، ومنهم الكاردينال لويس ساكو بطريرك الكلدان الكاثوليك (منذ شباط 2013)، الذي يعدّ صاحب أعلى منصب كنسي من مسيحيي الشرق في الكنيسة الكاثوليكية، والكاردينال الشرقي الوحيد الذي له حقّ التصويت في مجمع الفاتيكان.
سيرافق ساكو البابا فرنسيس في جولته التي تتضمن لقاءات بروتوكولية سياسية، ثم زيارة إلى منزل المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني في النجف الاشرف، وإقامة قداس وصلاة قرب زقّورة أور وبيت النبي إبراهيم في الناصرية، ثم لقاءات وصلوات أخرى في سهل نينوى والموصل وكنيسة النجاة ببغداد.
من الواضح أن الهدف الروحي الخاص من زيارة البابا هو دعم وجود المسيحيين في العراق، بالضد من أي دعوات أو ظروف تشجّعهم على الهجرة من البلد، وكذلك إثارة الانتباه المحلّي في العراق وفي العالم لأهمية هذه المجتمعات المسيحية، التي تُعَدّ الأقدم، ويرقى وجودها في العراق إلى السنوات المئة الأولى من ظهور المسيحية في العالم.
تداعيات سياسية
لم يكن البعد المسيحي الروحاني للزيارة هو النقطة الأساسية التي أثارت الجدل في العراق، بل الإعلان عن اللقاء مع المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني، فهو لقاء تاريخي بكلّ المقاييس، ويُعَدّ الأول من نوعه من رأس الزعامة المسيحية لأكبر الشخصيات الدينية نفوذاً في العالم الإسلامي الشيعي، بل إن البعض عدّ هذا اللقاء “ما بين المئذنة والصليب” على حدّ قولهم، نوعاً من التكريس لزعامة النجف الروحية للشيعة في العالم.
إنها ربما رسالة من العالم، ممثَّلاً بأكبر شخصياته الدينية، أن ما يمثّله خطّ النجف الروحي والأخلاقي هو المرحَّب به عالمياً من حضور شيعي، لا سياسات التمدّد وتجنيد المليشيات وإثارة الحروب في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط.
رئيس أساقفة أربيل: “لقاء البابا فرانسيس بالمرجع الديني الأعلى علي الحسيني السيستاني، جاء لمكانة النجف والتأكيد على القواسم الإنسانية المشتركة، اضافة الى مكانة المرجعية والسيد السيستاني إذ كانت لها مواقف في الأعوام الاخيرة يشيد بها القاصي والداني، مما يوجب وقفة وتقدير.
رحّب القريبون من مرجعية النجف بالزيارة، ونشروا بوسترات ضخمة تضمّ صورة للبابا فرنسيس مع صورة للمرجع السيستاني في شوارع بغداد والنجف ومختلف المدن العراقية، مع عبارات ترحيب، ومقتبسات من التراث الديني الشيعي تشجّع على الانفتاح وقَبُول الآخر.
زيارة تاريخية
هذه الزيارة تاريخية ومهمة على أكثر من صعيد، لعلّ منها جذب الانتباه إلى التنوّع الاجتماعي والديني في العراق، (22 طائفة دينية حسب سعد سلّوم)، وأن العراق بالمعنى الرمزي والتاريخي ليس ملكاً صرفاً لمكوِّن أو جماعة دينية أو عرقية محدَّدة، وأن الغطاء الأكثر واقعية لاستيعاب حقيقة التنوع في العراق هو المظلّة الوطنية، لا الآيديولوجيات القومية أو الدينية ذات الطابع الطائفي.
وهو مهمّ لأولئك الساعين إلى إعادة بناء الوطنية العراقية، خصوصاً من الأجيال الجديدة من الشباب، الذين كانوا هم الأكثر اهتماماً بهذه الزيارة البابوية، ولتأكيد قيم المحبة والسلام والتعايش باعتبارها قيماً عالمية وإنسانية، لا بدّ من ترسيخها في بلد خسر الكثير بسبب الصراعات والحروب الدامية، ولا بد أن تتوقّف هذه الخسارات، ويتوقّف المغامرون بمستقبل البلاد في لحظة ما قادمة.
إنها فرصة لإعادة الضوء على قضايا حيوية، منها أن خسارة التنوّع، بسبب هجرة الأقليات الدينية من مسيحيين وصابئة مندائيين وأيزيديين وغيرهم إلى خارج العراق، ستحرم البلد من عمقه التاريخي، ومن آخر الجماعات البشرية المتواترة بحضورها منذ فجر التاريخ، الذي هو، للمفارقة، فجر التاريخي العراقي والعالمي في الآن نفسه