الازدهار يعقب الانحطاط حقيقة أم طبيعة مجتمع؟
د. سلامة الصالحي
تمر الشعوب بفترات انحطاط تاريخي وغالبا ما تكون أسباب الانحطاط خارجية وداخلية، فقد تتعرض دولة الى غزو خارجي طمعا بثرواتها أو موقعها، وتكون أسباب الغزو ضعف وتهالك الدولة وقوة وهيمنة الدولة الغازية، حدث هذا في القرون البعيدة ويحدث الى الآن، فهذه طبيعة الحياة على الكوكب الاخضر صراع بين مراكز القوى تكون ضحيته الشعوب الضعيفة، وهكذا تقاسم العالم القديم القوي الشعوب الضعيفة وهيمن عليها وفرض قوته وثقافته من لغة وطبائع. وأحيانا يكون الدين هو سبب الغزو واستغلال الشعوب الضعيفة، كما حدث مع الديانات السماوية والارضية التي تسبب نشرها في الكثير من الحروب وسفك الدماء، حيث وقفت خلف ذلك مطامع اقتصادية واجتماعية أدت الى أن يتخلف دور المجتمعات، بسبب استغلال الدين والمتاجرة به بإيقاف عقول الناس عن طلب العلم والمعرفة والتمسك بالخرافة، والتي جاء الدين لمحاربتها وحث الناس على التفكر وطلب العلم. كيف تضعف وتقوى الشعوب؟ تضعف الشعوب وتقوى من الداخل، بدءا من الأسرة وبناء المجتمع الى الدولة ورجالها ومدى اخلاصهم وصدقهم وذكائهم في ادارة مجتمعاتهم واوطانهم ومدى وعي الشعوب، وماهي منظومة القيم والاخلاق والمعاني التي تتبناها، بدءا من التربية البيتية والمجتمعية الى القوانين التي توضع لتطبق بحزم واخلاص من قبل القائمين عليها الى قضاء عادل ومستقل وبرلمان يراقب ويشخص مواطن الخلل ويعالجها. كيف يحدث الانحطاط؟عندما تتعرض دولة ومجتمع الى حروب وثلة حاكمة تبحث عن مجد شخصي وتنفذ اجندات خارجية، قد تكون غافلة عنها أو أنها تعلم ذلك جيدا. وتنشغل بشراء الاسلحة وافتعال الصراعات الخارجية من دون الالتفات لبناء أوطانها ومجتمعاتها، فإن للحرب مخالبها التي تبدأ بهتك حرمة بناء المجتمع الرصين وتبدأ بهدم لبناته القوية واقتصاده القوي، وقيمه ومثله العليا تتبدل اشياء كثيرة، تصير الناس أرقاما لا قيمة لحياتها الا مقابل بسيط من المال، وتبدأ مسيرة الموت المجاني والعادي وتتقبل الناس فكرة هذا الموت بالخضوع ومسايرة الحاكم ومواصلة الحرب تحت مسميات حماية الوطن والارض والعرض، التي كان بالامكان الحفاظ عليها بالحوار والطرق الدبلوماسية وذكاء فن الحكم لدى الحاكم، الذي تهور ودخل في حماقة الحرب التي ستكون البداية للخراب أو نهوض الوعي وايقاف افعوانها باستثناء الحرب على الارهاب، التي كان الارهاب أحد نتائج الحرب التقليدية في صناعة مجتمع محارب متعب اقتصاديا، يستسهل استخدام السلاح في نزاعاته الشخصية والتي كانت الحرب هي الافعى التي سخرت سهولة القتل ورخصت ثمن الحياة. فالشعوب التي تمر بالحرب وبعد ان تنتهي وتضع اوزارها ستجد أن اقتصادها ضعف وعملتها الوطنية ضعفت. وهذه أول الاسباب لانهيار وانحطاط المجتمعات فتبدأ مرحلة جديدة من القيم والعادات الغريبة، التي تغزو عقول وسلوكيات الناس، إن كان بناؤها الانساني ضعيفا في حين نجد شعوبا اخرى تبدأ بالتماسك حول نفسها وتأخذ بالثأر من الحرب بسيادة المثل الجميلة والقيم والاخلاق والفضائل وتعض على جراحها، وتبدأ بالبناء بناء الانسان المنهوك من الحرب وترميمه ومن ثم بناء الوطن ومؤسساته، وهكذا يعقب عملية الانحطاط والانهيار، التي حدثت مرحلة ازدهار تتضح معالمها بعد عقد من السنين او أكثر، حيث تبدأ بوادر الحياة الخيرة تعطي ثمارها ونرى في تجارب اليابان والمانيا وكوريا الجنوبية، وغيرها الكثير امثلة حية على قوة وصلابة الشعوب وعنادها في مواجهة اليأس والدمار والنهوض مزدهرة بكل شيء. هكذا اثبتت حقيقة ان الانحطاط تعقبه مراحل ازدهار واتذي يقف وراءها الانسان ذاته وارادته والثقافة، التي تربى عليها وبروز شخصيات وطنية وزاهدة باي طمع خارج الاخلاص للوطن والحياة والانسان ومخلصة ذلك الاخلاص، الذي يصل صدقه للاخرين فتأخذ بيد شعوبها نحو مرحلة جديدة تزيل فيها غبار ودمار الحروب.ما الذي حدث لنا، ولماذا لا تعقب مرحلة انحطاطنا مرحلة ازدهار بعد عشرين سنة من هذا الانهيار؟ ماهي الاسباب التي وقفت وحالت دون ذلك، هل كان موقع العراق المحاصر بالحدود البرية وقلة المنفذ البحري جعل منه سهل الاستدراج للحرب، ام وجود نظام دكتاتوري غابت عنه الخبرة السياسية، هل ان النظم العشائرية والقبلية كانت تتحكم بهذا الوضع وتضع العراقيل امام اي نهضة او تقدم، من احتقار العمل او عدم تمكين المرأة واعطاءها فرصة المساهمة بالنهوض، رغم ما يظهر من مساهمات هي في حقيقة الامر محدودة من دون أن ننكر دور المرأة في الريف وعملها غير الخاضع للقياس، هل تفرعن المؤسسة الدينية وهيمنتها على سلوكيات وحرية الناس، تحت ذريعة الدين او المذاهب، فبقيت تراوح في مكانها متمسكة بسلوك التدين الشعبي ومظاهره التي اتخذت طابع قانون، لا يمكن النقاش بموضوعه تحت طائلة الجهل والتفكير الجمعي السلبي المتراجع والخائف؟. هل طبيعة المناخ المتطرفة الحرارة جعلت من انسان هذه البلاد غير محب للعمل او حتى غير متقن له، إن لم يكن غير مخلص وفضل الراحة والاسترخاء على عرق العمل ولذة النجاح والانجاز، هل في هجرة العقول الذكية والشباب الواعي احدثت هذه الثغرة المخيفة، هل في انقراض الجيل الذهبي الراقي والواعي والوطني في الحروب العبثية والابادات الجماعية من سجون ونفي وقتل كان السبب، هل ان ما حدث من عبور زائف الى حداثة سائلة بدأت تغزو العالم لتصل لنا وتتجلى لدينا بظواهر غريبة وخطيرة بدأت تمزق ما بقي من تماسك لدينا، هل ان من تولت الحكم من جهات وافدة وكانت معارضة للظلم وتركت البلاد سنوات طويلة فشلت في السير بمركب البلاد الى النجاة والنهوض مجددا، لأنها لم تعرف ظروف البلاد وتصرفت بطريقة خاطئة ادت الى ترهل جهاز الدولة وغياب سلسلة التواصل في بناء الدولة باستيعاب الشباب وعدم التركيز على كبار السن واعادة تدويرهم في مؤسسات الدولة، فحدث الخلل الكبير واختلت كفتي الميزان، هل حل الخراب بالانسان فأهمل ارضه وحياته واسترخى في المقاهي وخلف شاشات الهواتف الذكية؟. تظهر لنا ملامح الانحطاط بتعليم رديء، بدءا من معلم يبحث عن دروس خصوصية ليتاجر بطلابه ومهنته، فهبط مستوى اخلاصه بعمله وضعف مستوى التعليم بدءا من المراحل الاولى وحتى الدراسات العليا، ومن ملامح الانحطاط المؤلمة حقا ان يتاجر الصيدلي بحياة الناس، بعد أن يتفق مع طبيب وصاحب مختبر على استثمار حياة الناس والمتاجرة بها وسحب ما بحوزة المريض المثقوب الجيب اصلا، وفي الوقت ذاته يرفض الكثير من الاطباء الانصياع لشروط الصيدلي مخلصين لمهنتهم وانسانيتهم بالوقت ذاته توجد بوادر امل لمدرسين يحرصون على تلاميذهم وسمعتهم. ومن ملامح الانحطاط المهندس المرتشي واللص والمقاول الزائف واللص والسياسي السارق والشرطي المرتشي، وفساد يعم كل شيء (أفرادا ومؤسسات)، فالانانية استحوذت وصارت الهوية الوطنية محض فكرة سائلة تحددها المصلحة الشخصية. وهكذا الى ان نصل الى انحطاط الذوق العام من فن هابط واغنية بذيئة ومواقع الكترونية صار يتابعها الملايين، وهي تصدر البذاءة والبهيمية والقبح من دون ان تجد لها رادعا، الى المتسولين والمتسولات الانيقات على قارعة الطريق، كأنها مهنة وموظفون يجنون المال وهم يهدرون كرامتهم وانسانيتهم. مايحدث يجب أن يواجه بثورة يقودها المجتمع نفسه من رجال سياسة وقادة جيش وقادة مجتمع، فنحن في بلاد خالفت حقيقة الاشياء وطبيعتها فالانحطاط بدأ يجر انحطاطات لم تكن في البال ولم نتصور حدوثها.