الإصلاح يبدأ من الشعب
الإصلاح يبدأ من الشعب – ياس خضير البياتي
سأقول كلاما جدليا هذه المرة، وخارج ماكنت أؤمن به، وربما ينتابني شيء من الحزن والتعاسة هذه المرة فيما اكتب. لأنني أكتب عن سلوكيات شعب لا تبشر خيرا في التغيير. فأنا مؤمن بأن شعار الإصلاح لا يبدأ من الأحزاب والسلطة، إنما يبدأ من الشعب. هو صاحب القرار الأقوى، مثلما هو يتحمل وزر فساد حكامه. فالإرادة الشعبية هي الثابت في الديمقراطية الذي يغير كل شيء ولا يتغير! لنؤجل أي موضوع آخر إلى حين، فالعاشر من الشهر الحالي انتخابات من يقود العراق؛ انتخاب العراقي الوطني أو انتخاب العميل الفاسد. أما إلى الازدهار أو إلى دوامة الهاوية مرة أخرى. هي متواليات هندسية في تقرير وجودنا وكرامتنا، أن نكون أو لا نكون. فالانتخابات تعني “وجود أو غياب”، مثلما هي الخيار الأوحد اليوم لتقرير المصير.شخصيا لا تهمني الانتخابات بتفاصيلها الكثيرة، فهي تجربة عراقية مرة كالعلقم، لم تحقق لنا إلا المزيد من البؤس والتعاسة، وجلبت لنا الويلات والأزمات والتفقير والخراب والفساد المزمن، وعرفتنا بوجوه سياسية كالحة، وجرفت الحياة الجميلة بحياة أخرى مملوءة بالغيبيات والنحر والقتل والتهجير. فاستبدلت السمفونيات والموسيقى بالعزاء الأسود، وفرق الرقص الشعبي إلى ساحات للركض إلى المجهول، والكتاب والأدب إلى أغنية دينية للتحريض وكره الآخر. من يعتقد بغباء أن الانتخابات لوحدها هي الديمقراطية، فلينظر إلى خراب مدن العراق، ونسبة الفقر والبطالة والفساد، وأعداد من يقف في طابور المزابل!لا يهمني من يخسر أو يفوز في الانتخابات، فالأمور محسومة سلفا، والوجوه نفسها قادمة تضحك على الشعب ببطانية شتاء أو حصة تموينية أو مائة دولار. لكن ما يهمني سلوكيات شعب يعاني من ازدواجية حادة بين “مدني /ديني” و “حضري/ ريفي عشائري” و” تسلّطية قامعة/ نكوصيه خاضعة”. ولو كان معنا فيثاغورس اليوم، فلن يكون قادرا على حل هذه الظاهرة الغريبة بالمعادلات الرياضية، أو بهندسة أضلاع هذا المثلث السلوكي قائم الزاوية.مغير حقيقي وبمنطق التاريخ فأن المغير الحقيقي هو الشعب وليس ابدأ الحاكم أو الحزب مهما رفعوا من شعارات، والشعب الضعيف المزدوج الشخصية أمام الحاكم لا يغير شيئا. بينما الشعب القوي يقوي الدولة، ويقوي العقول المبتكرة والمنفتحة، ويمنح الإرادة البشرية طاقة إيجابية للتغيير.سأوضح أكثر، ما يجري في العراق من خراب ليس صناعة أحزاب فقط، وإنما هي صناعة سلوكيات عراقية مريضة مصابة بازدواجية شخصية بفعل التاريخ والمحن والأزمات. أعترف بأن الشعب ظالم ومظلوم؛ مظلوم لأنه وجد نفسه إجباريا في بيئة مريضة بالنزاعات والظلم، وظالم لأنه لم يحسن استغلال الفرص الضائعة، فأختار “البطل الفردي أو الديني” على حساب المستقبل.فصارت شكواه من الظلم نظرية حياتية له، وخلاصه حياته بكائيات غيبية طيلة السنة، وجعل قادته طوطما له لتغييب العقل وخداع النفس وتبرأة الذمة! لذلك تراجع إيمانه بمفهوم المواطنة، وارتمى أكثرهم في أحضان الطائفة ورجل الدين والعشيرة. فهو “يقع على حافة منبع فيّاض للبداوة يجتاحه بين حين وآخر ليرسّخ فيه قيم الغزو، والتغالب، والعصبية القبلية”.يرى عالم الاجتماع العراقي على الوردي أن الشخصية العراقية، تعاني من الازدواجية والتناقض؛ فالعراقي أكثر الناس هُياماً بالمـُثُل العليا وأكثرهم انحرافاً عنها في واقع حياته، ومن أكثر الناس حبا للوطن ويتملّص من خدمة العَلَم، ومن أكثرهم انغماساً بين المذاهب الدينية وأقلُّهم تمسُّكاً بالدين، ويلتهب حماساً لمبادئ العدل والعفو والرحمة، ويُسْرِع بالاعتداء على غيره ضرباً ولَكْماً، إنَّه ليس بهذا منافقاً أو مرائياً كما قالوا، ولكنَّه في الواقع ذو شخصيتين، يفكّر بإحداهما ويعمل بأخرى.قد يختلف البعض مع الوردي بالفكرة والاستنتاج، لكن الواقع الحالي يقترب من هذا التحليل، بل يمكن القول، وهو راي شخصي، بأن الشخصية العراقية متطرفة جدا في الصبر والاحتمال والطيبة، تثور بسرعة وتنطفئ أسرع، ومزاجها متقلب بالانتهازية والمواقف. فتجد شيوعيا أصبح معمّما صدريا، وبعثيا انقلب ليصبح من آل بيت حزب الدعوة، ومعمما يشرب الشاي صباحا و”حليب السباع ” ليلا. وشيخا دينيا يهدم جامعا للصلاة لبناء مولا تجاريا. والقصص كثيرة تدعو للدهشة تشيب الرأس.ملايين زاحفةأنظروا إلى ملايين الناس الزاحفة إلى مرقد الحسين عليه السلام وهي ترفع كلماته الخالدة (هيهات منّا الذلّة)، وهي تعيش منذ سنوات تحت عذاب الذل والفقر، ولا تستطيع عبور جسر الجمهورية لأسقاط من أذلوهم وأفقروهم. عقلهم في الماضي المجهول وعقلهم الآخر في الحاضر. وممارساتهم نحيب وبكاء وشكوى من الجوع والمرض والبطالة في بلد يسبح على بحيرة نفط!شعب كثير الشكوى والتذمر على من جعلوهم أسيادا عليهم، وخدعوهم باسم الطائفة، وأرعبوهم بكذب الفناء من الطائفة الأخرى. وأغرقوهم بالفتاوى والطقوس الكاذبة، وأعياد الأحزان والمسيرات، وتفننوا باختراع أنواع الطقوس لهم ليستعبدوهم، ويغسلوا عقولهم باسم الأئمة الأطهار كذبا وخداعا.هناك مآسي من نوع آخر للازدواجية، شيوخ قبائل لم تحترم عقالها، فاختزلت تاريخها بحقيبة دولارات أو رشوة لا تستحق الذكر. فأصبح شيخ القبيلة اليوم موضع تندر لانتهازيته للحاكم أو الأحزاب بعد إن كان رمزا وقدوة للقبيلة. أما رجل الدين، فقد أساء الكثير منهم لرسالته، فاستثمروا الدين لمليء البطون والجيوب بالمال الحرام فأسس بعضهم إمبراطوريات عقارية ومولات تجارية. فانتهينا إلى فقدان المجتمع للقدوة في الدين والقبيلة والوظيفة والتعليم. فانهارت القيم بسبب هذه الازدواجية المريضة، والتعلق المتطرف الغيبي بالماضي.يالبؤس شعبنا الذي تلقى أنواع الذل والضيم من حكامه الذي انتخبوهم بأنفسهم، وهو الذي زرع لهم الظلم والفقر والخطف والقتل والتهجير والعمالة والمخدرات ودس رؤوسهم في الرمل، وصنع لهم طواطم خادعة ليعبدوه. فسجدوا له وخنعوا لقوله وفعله فصدَّق أنه فوق الطبيعة فاستعبدهم واستباح حرياتهم. لذلك صدق من قال إن الشعوب هي من تصنع الخراب بصنعها للحاكم أو الحزب وتقديسهم لهم.مرة أخرى أقول، لا يهمني الانتخابات إذا جرت أم لم تجرى، أو ذهب المواطن لينتخب أو لم يذهب، لأنني على يقين بأن الأمور لم تتغير قط، والوجوه السياسية الكالحة ستعود مرة أخرى بطرق عديدة. وستعود الدورة السياسية كما كانت. لكن ما يهمني هو أن يصنع الشعب لنفسه شخصية جديدة وان يكون له عقل واحد يستطيع أن يقرر مستقبله القادم، وألا يعود إلى غيبيات التاريخ وطقوسه المريضة. لا نريده أن يطفئ روح الشباب الثائرة، ويتفنن بتمزيقها وإسكات صوتها، لأنهم الأمل الوحيد للتغيير.مثلما لا يصلح أن يتمسك بتاريخين متناقضين معا، ويعمق الازدواجية القاتلة في عقله؛ المزج بين ماضي الغيبيات والدعوة للحرية وحقوق الإنسان، بين كاتم الصوت اللعين واستخدام تقنيات العصر الجميل، وبين السيوف والتقنيات الرقمية.اليوم العاشر، هو عرس الأحزاب والسلاح والمال الحرام، وتدوير النفايات السياسية الفاسدة، لن يجد الشعب سوى ورقة داخل صناديق الاقتراع كتب عليها: عُدْنــا والعَـوْدُ أحْمَـدُ!