الأحلام الجماعية الرائعة لا يمكن أن تتحقق ما لم يكون الوعي بها شاملا
محمد المحمود
تحلم جماهير الشرق الأوسط بما تحلم به الجماهير في شتى بقاع الأرض، تحلم كغيرها بالحرية والسلام والعدل والرخاء والازدهار وتطور الأوطان على كل المستويات؛ متوسلة إلى ذلك بمبادئ وآليات وهياكل مؤسساتية، أدركت ـ بمشاهدات عابرة، وبمقاربات خاطفة ـ أنها حقّقت للعالم الأول/ العالم المتحضر كل ما تحلم به منذ أمد بعيد، وتصورت ـ أو توهمت! ـ أنها إن أرادت إنجاز ما أنجزه المتحضرون؛ فلا عليها إلا أن تقول بأنها تريده، أن تردد شعاراته؛ ليتحول الحلم المنشود ـ بقوة سحرية ـ إلى واقع يملأ مدى الأبصار والأسماع.
تنادي هذه الجماهير بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وتطمح لبناء مجتمعات مؤسساتية متعاضدة لتحقيق “الخير العام”؛ كما هو الحال في العالم الأول/ العالم المتقدم. وهذا حقها الطبيعي ابتداء. لكنها، وهي تشتعل أحلاما، لا تتأمل البناء الكلي للتصورات الذهنية السائدة؛ كما لا تتأمل الواقع ومعطياته، ولا تتساءل معرفيا: هل هذا وذاك يستجيبان للأحلام الطموحة التي تبدو ـ في انفصامها عن الواقع الفكري وعن الواقع العيني ـ وكأنها مجرد أحلام.
يقول المفكر اللبناني الكبير/ خليل أحمد خليل: كان الجمهور العربي جمهور “الطرب السياسي”، لا جمهور “الفعل السياسي”(سوسيولوجيا الجمهور السياسي الديني في الشرق الأوسط المعاصر، ص123). وفعلا، ما يأخذ بألباب الجماهير في هذه المنطقة الشرق أوسطية هي الاستعراضات السياسية، الشعارات الصاخبة؛ لا الفعل السياسي الذي يبدأ من الوعي بشروط حضور الأفكار وانفعالها وتفاعلها، مقرونا بالوعي بشروط الواقع واستحقاقاته التي لا يمكن القفز عليها بحال.
عيون الجماهير الراصدة للواقع بعيدة كل البعد عن معاينة عالم الأفكار التي صنعت هذا الواقع، أو أفرزها هذا الواقع في مدى تفاعلهما الجدلي. عيون الجماهير الحالمة مشدودة دائما إلى الواقع العيني، والأسوأ أنها ليست مشدودة إلى هذا الواقع بكليته، بامتداته العمودية (خلفياته التاريخية) والأفقية (علائقه الجيو ـ سياسية)، وإنما هي مشدودة فقط إلى هذا الواقع في مستوى تمظهره العيني المباشر/ الآني.
إن السلوك البشري، الواعي واللاواعي، على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعات، إنما يصدر عن تصورات ذهنية حاكمة، عن أفكار راسخة مهيمنة. وتمظهرات السلوك/ الأفعال ما هي إلا انعكاس لجدلية الأفكار في نهاية المطاف؛ حتى وإن كان ثمة مساحة واسعة ما بين “عالم الفكر” و”عالم الفعل”، مساحة متاحة لكثير من التفاعلات التي قد يوحي جهلها أو تجاهلها بتوهم الفصل بين هذين العالمين، الفصل الذي ينتهي إما إلى القول بأصالة الفكر وتحوله ـ في أغلب/ كل مستوياته ـ إلى متعاليات ميتافيزيقية، أو أصالة الواقع وتحوله إلى أصل الأصول.
على أي حال، بما أن حديثنا هنا عن “الجماهير” تحديدا، فهو بالتالي حديث عن غياب “الفكر”، أي عن تجاوزه ـ جهلا أو تجاهلا ـ في التعاطي مع جدل “الواقع”، من حيث كون الجماهير تتعامل/ تتفاعل ـ على مستوى الوعي ـ بالواقعي المباشر، بينما هي ـ على مستوى اللاّوعي ـ تتفاعل بمحفزات ومحددات/ مؤطرات من التصورات الذهنية الكامنة التي قد تمتد جذورها لمئات السنين.
كل الأزمات، كل الحروب والنكسات، كل الهزائم والكوارث القومية، كل الوقائع المأساوية التي تكاد تلتهم معنى الإنسان في إنسان هذا العالم الشرق أوسطي، حاول المهتمون من أبناء هذا العالم المنكوب ردها إلى أسباب واقعية مباشرة، وفي الغالب، إلى سبب أحادي مباشر يختزل جميع المؤثرات. بينما قليل، وربما نادر، أن تمتد محاولات الفهم إلى مساءلة الأنساق الثقافية الحاكمة؛ لأن التصور السائد لا يرى أن لعالم الفكر/ عالم التصورات كل هذا الحضور الفاعل في عالم الواقع.
كل شيء يجري بوعي جماهيري، والوعي الجماهيري مباشر وآني. فمثلا، إذا كانت العشرون سنة الماضية، هي سنوات الظاهرة الإرهابية/ العنف الأصولي الذي اكتسح معظم بلدان الشرق الأوسط، فإن الأغلبية حاولوا مقاربتها من خلال دوافعها الواقعية المباشرة (ما يسمونه: الأسباب الموضوعية)، مُتَجاهلين أو مُهَمِّشِين أثرَ الأفكار/ العقائد الأصولية/ السرديات الأيديولوجية في تخليق هذه الظاهرة. والناجحون في مكافحتها والحد منها هم أولئك الذين تنبهوا إلى أولوية الفكر على بقية الدوافع، فبدأوا بالصراع مع الفكرة جدلا وحوارا ونقدا، بالتوازي مع الصراع الأمني الذي كان يستهدف كوادر الفعل الإرهابي التي هي ليست أكثر من ضحايا لمصانع الأفكار.
يقول المفكر القدير/ علي حرب ـ وهو يحاول مقاربة ظاهرة “الربيع العربي” ـ : قد تكون المداخل عديدة لتفسير الظواهر وتحليل الوقائع، ولكن مدخل الأفكار أولى، فلا بد من فك الشيفرة الثقافية التي تنتجها وتقف وراءها (ثورات القوة الناعمة في العالم العربي، بتصرف ص162).
وطبعا، علي حرب هنا لا يتجاهل الأسباب الموضوعية/ الواقعية المباشرة أو شبه المباشرة، لا يتجاهل الفقر والحرمان والاستبداد والجهل والبطالة…إلخ، كلها ذات أثر/ فعل، وإنما يرى أن هناك ما هو أعمق وأبعد أثرا، هناك ما هو “مسبب الأسباب”، أي الأصل الذي خلق تلك الظواهر التي تحولت إلى دوافع. ومن ثم، فهو (الأصل) الأحق بالاهتمام، والأجدر بأن يتوجه التحليل إليه ابتداء.
الفقر والحرمان والاستبداد والجهل والبطالة…إلخ، ظواهر موجودة في أكثر من مكان، وفي كل زمان. فلماذا في لم يتحول أغلب الضحايا لكل هذا ـ وهم بالملايين ـ إلى إرهابيين أصوليين، أو إلى ثوار حرية وديمقراطية وعدالة اجتماعية.
إن الأفكار هي ما تحدد الوعي بالفقر والحرمان والاستبداد والجهل، وتحدد طبيعة التفاعل معه إيجابا أو سلبا. بل ثمة من الظواهر ما تكون الفكرة هي الأصل والفصل، هي خط المسار من البداية إلى النهاية.
فمثلا، إرهابيو 11/9 لم يكنوا فقراء محرومين، إن أهمّهم/ أخطرهم: محمد عطا لم يكن فقيرا، ولم يكن جاهلا، ولم يكن عاطلا، لكن (وكما يؤكد الباحث الفرنسي/ أوليفييه روا في كتابه “عولمة الإسلام” ص209/210) وجدت عنده شرائط الخطب العنفيّة التي كان يلقيها الشيخ السلفي الفلسطيني/ أبي قتادة، بمعنى ان الأثر الفكري كان حاسما في تحويل شاب وديع متعلم/ غر عاطل إلى “قنبلة كراهية بشرية” مستعدة ـ بدافع إيماني عقائدي ـ أن تأخذ معها آلاف الضحايا إلى الموت والدمار.
إن الجماهير في هذا العالم الشرق أوسطي لا تعي ما تريد حقيقة؛ مع أنها تصرخ عاليا بما تريد. أحلامها الحقيقية بسيطة، بل وساذجة أحيانا؛ مع أنها تنادي بأكبر الأحلام. هي مستعدة لأن تبيع ـ دون أن تتعمد إمضاء الصفقة ـ أكبر الأحلام وأرقاها إنسانيا من أجل إرضاء الغرور بشعار قومي صاخب، أو مكسب نفعي، فردي، جزئي، آني، مباشر، تافه. وربما رضيت ـ في النهاية ـ بعكس/ بضد ما كانت تحلم به ثمنا.
فمثلا، الثورة الإيرانية ـ كما يشير حازم صاغية ـ قامت بعد الثورة الفرنسية بـ190 سنة، لا لتنتصر لـمبادئ الحرية والأخوة والمساواة، ولا لإبعاد رجال الدين، بل لتؤكد على العكس، فهي عزّزت الثورة النظرة السحرية إلى العالم، مثلما عزّزت المراتبيّات الجامدة على أنواعها، وأقامت هرمية غير مسبوقة في إحكامها، يحتل الرجال بموجبها موقع السلطة على النساء، والمسلمون على غير المسلمين، والشيعة على غير الشيعة… ناهيك عن العداء للإصلاح الزراعي.
ثم يؤكد صاغية أن “هذه إشارة مبكرة، لم يتطرق إليها الفكر السياسي كثيرا من قبل، إلى أن المجتمعات أحيانا، إذا ما تُركت وحدها، قد تنجب حالات سياسية واجتماعية لا تقل سوءا عن سوء الأنظمة المستبدة، إن لم تزد” (الانهيار المديد، ص205).
ليس غريبا أن تحدث هذه النتائج المعاكسة لآمال الثوار الحالمين بحياة أفضل، حياة أكثر حرية وديمقراطية، وأقل فقرا وجهلا وتخلفا في البنى التحتية، فالجماهير كانت مشدودة إلى ذات الأفكار التي تتضمن ـ في العمق ـ كل ما يضاد أحلامها التي تتردد على ألسنتها؛ دون أن تعي اشتراطات تحققها. هكذا يقع الجمهور في فخ جهله بما يريد حقيقة، وجهله بالطريقة التي يستطيع بها تحقيق ما يريد؛ فيما لو عرف ـ حقيقة ـ ما يريد.
إذن، الأحلام الجماعية الرائعة لا يمكن أن تتحقق ما لم يكون الوعي بها شاملا. النظر إلى التفاصيل، والاشتغال عليها في وقائعها الجزئية، دون تصوّرها في علائقها الكلية الناظمة، ينتج سوء فهم يتسبب في تعميق المشكلات وتأزيم الأزمات.
وبحق، يخسر وينتكس ذلك “الجمهور، الذي يتلمس خناقاته الاقتصادية، من دون أن يتنبه عادة إلى خناقاته الأيديولوجية. فهو يعيش اختناقه المعيشي، مثلا، ولا يربطه مباشرة باختناقه الفكري، الروحي” (سوسيولوجيا الجمهور السياسي الديني في الشرق الأوسط المعاصر، ص72). وهروبه من هذا الربط قد يكون هروبا واعيا أو غير واع، إنه هروب مدفوع بكون مراجعة الأفكار الراسخة الموروثة، المقدسة وغير المقدسة، لا تتوفر لديه شروطها، إذ لا يحتاج مثل هذا الربط إلى وعي معرفي/ علمي متقدم فحسب، وإنما يحتاج أيضا إلى شجاعة نقد الذات نقدا عميقا يجرف الوعي على نحو يعصف بالعقل قبل الفؤاد (وبين المعرفة والشجاعة هنا تلازم شرطي).
وهذا وذاك هو ما لا تستطيعه جماهير الشرق الأوسط (بما فيها النخب الجماهيرية/ المتجمهرة) التي لم تتجاوز بعد ـ في مستوى أفقها المعرفي ـ حدود قرونها الوسطى.