“اشلاء أجساد مبعثرة بين ألواح إسمنتية رمادية اللون، استلقت فوق بعضها بعضاً كما لو أنها ذابت.”
الكاتبة : بيل ترو
يصعب على المرء أن يصف بدقة منظر حيّ مزدحم في مدينة تعرّضت للقصف خلال الحرب، أو الشعور الذي ينتابه حيال موقع مدمر، أو ما الروائح التي يشمّها السائر بين أنقاضه.
قد تكون الصراعات مختلفةً إلى حدّ كبير، شأنها في ذلك شأن المقاتلين، لكن يبدو الدمار على امتداد ساحات القتال التي غطيت أخبارها، في كثير من الأحيان هو نفسه: أشلاء أجساد مبعثرة بين ألواح إسمنتية رمادية اللون، استلقت فوق بعضها بعضاً كما لو أنها ذابت.
تردّد الأطراف العارية للأبنية القليلة التي بقيت قائمة صفير الرياح، بينما يتراكم كل ما نجا من القصف في حفر واسعة الأفواه، وهذا الناجي كان ذات مرة هرة في غزة، ودجاجة في ليبيا في مرة أخرى. رائحة اللحم المحروق أو الأجساد المتعفنة تزكم الأنوف وسط الخراب الذي أحدثه القصف.
هكذا، فإنّ الألم الذي اعتصر قلوب مدنيين ابتلع عالمهم غضب الحرب، يبدو بطريقة غير مباشرة حاداً إلى درجة يكاد معها المرء أن يلمسه بيديه فعلاً، وتخذلك اللغة إذا بحثت عن كلمات معبرة تقولها للأمّهات والآباء المفجوعين، أو لأطفال يتامى، أو للجرحى الذين خلّفهم القتال، ففي القرى والبلدات والمدن التي تشهد نزاعات في جميع أنحاء العالم، يكون الأشخاص العاديّون هم دائماً الأكثر معاناة.
وفي الواقع، وجدت أخيراً مجموعة (العمل لمواجهة العنف المسلّح) التي تتّخذ من المملكة المتّحدة مقرّاً لها، أن الأسلحة المتفجرة، لا سيّما القنابل، أوقعت إصابات في مناطق آهلة، كان المدنيون يشكلون 90 في المئة من ضحاياها، وذلك خلال الـ8 سنوات الأخيرة التي راقبت خلالها المجموعة الصراعات.
وحسب الأرقام التي قدّمتها المجموعة، فتسبّبت تلك الانفجارات في مقتل نحو ربع مليون مدني بجميع أنحاء العالم منذ عام 2011، وهذا التقدير بعيد كل البعد عن رصد مجمل الخراب الذي أسفرت عنه التفجيرات.
لكن، هذا يمكن أن يتغيّر، فالقنابل والصواريخ والقذائف ومدافع الهاون التي تقتل الناس وتدمّر منازلهم، هي من النوع الذي تتعاون دول من أجل وضع قيود لاستعماله في المدن والبلدات والقرى.
وكان من المقرّر أن تحضر عشرات الدول ومجموعات المجتمع المدني لقاءً عُقِد في جنيف أخيراً، بقيادة إيرلندا والنمسا، لصياغة إعلان سياسي مهمّ ضد استخدام الأسلحة المتفجّرة التي تسبب آثاراً مدمّرة واسعة النطاق، في مناطق آهلة بالسكّان.
ويُمكن أن يكون مسؤولو الدفاع البريطانيّون، الذين من المتوقّع أن يحضروا الاجتماع هناك، في وضع ممتاز لقيادة ذلك النقاش، لا بل يتوجّب عليهم أن يفعلوا ذلك.
قد تبدو الإعلانات السياسية غير الملزمة قانونياً، غامضةً بعض الشيء ولا معنى لها، وبالتأكيد لن تحلّ المشكلة فوراً. ومع ذلك، فهي تشكّل خطوة أولى يمكن أن تتخذها الدول في سياق الالتزام بإجراء تغيير، ويمكنها المساعدة في إيضاح آلية السلوك القانوني، ووضع إطار لأفضل الممارسات والإصلاحات اللازمة.
وكانت المملكة المتّحدة وقّعت إعلاناً سياسياً مماثلاً حول “المدارس الآمنة” في العام 2018، تعهّدت فيه تعزيز حماية التعليم، والحدّ من استعمال المنشآت والمرافق المدرسية عسكرياً في أثناء الحرب، ويُفترض بالمملكة المتّحدة الآن أن تساعد في كتابة “إعلان نوايا” حول الأسلحة المتفجرة وتوقعه.
كان هناك بعض الهمس الإيجابي، ففي النقاش الذي حدث في العام 2016 في الأمم المتّحدة، شدّدت المملكة المتّحدة على ضرورة الحدّ من الدمار الذي تسببه الأسلحة المتفجّرة في مناطق آهلة بالسكّان.
واعترفت بصورة منتظمة بالضرر الذي تسبّبه تلك الأسلحة، ويتعيّن عليها أن تمضي بهذا التخوّف قدماً إلى الأمام، والسعي للتعبير عنه بلغة أقوى خلال المناقشات الجديدة حول الأسلحة نفسها.
ودعت مجموعات حقوق الإنسان والجماعات الإنسانية مثل “هيومن رايتس ووتش” و”أوكسفام”، في إطار “الشبكة الدولية للأسلحة المتفجّرة”، المملكة المتّحدة وغيرها مراراً إلى ضمان صياغة هذا الإعلان بمواصفات أساسية معيّنة.
وتناولت منظّمة “هيومن رايتس ووتش”، في تقرير لها يوم الخميس الماضي، الدمار الذي أحدثته الأسلحة المتفجّرة في الأحياء السكنية في دولٍ مثل أوكرانيا وليبيا وغزّة واليمن وأفغانستان والعراق وسوريا.
وكتبت لما فقيه، وهي مديرة قسم الأزمات والنزاعات في “هيومن رايتس ووتش”، مبينة أن “عشرة أعوام من البحث، تظهر أن استخدام الأسلحة المتفجّرة في مناطق آهلة بالسكّان يقتل المدنيّين ويشوههم، ويتسبّب بنزوحهم، ويدمّر البنية التحتية المدنية الحيوية”.
وأضافت، “يتوجّب على الدول المجتمعة أن تضع إعلاناً سياسياً قوياً يتعهّد تجنّب استخدام هذا النوع من الأسلحة”.
وقالت منظمّة “هيومن رايتس ووتش”، على الأقل، يجب أن تكون المملكة المتّحدة “مستعدةً للمطالبة بأن يؤدي أي إعلان مستقبلي هذه المهمّة”، علماً أن هذا هو مضمون نداء وجهه رئيس “اللجنة الدولية للصليب الأحمر” والأمين العام للأمم المتّحدة.
ويُفترض بالإعلان أيضاً أن يحضّ على تقديم المساعدة للمتضرّرين من استخدام الأسلحة المتفجّرة، وجمع البيانات للمساعدة في حماية ملايين المدنيّين العزّل المعرّضين للخطر في النزاعات المستقبلية، ولا يمكن التزام هذه التعهّدات أن يكون أكثر إلحاحاً مما هو اليوم.
فالملايين من الأشخاص معرّضون للخطر حالياً في المدن والبلدات التي استُهدفت بقنابل كبيرة قصفتها طائرة، وبراميل متفجرة، بينما تمطرها المدفعية الثقيلة والراجمات المتعدّدة الفوّهات، بالقذائف المتفجرة التي تنهمر على آلاف الأمتار المربّعة.
وغالباً ما تحوّل القذائف المتفجرة المنازل إلى خرائب، والمدارس إلى هياكل مقطعة الأوصال، وتدكّ البنية التحتية الأساسية للطرق وأنابيب المياه والصرف الصحّي وشبكات الكهرباء، ما يؤدي إلى ما يشبه تأثير الدومينو، فيسبب هذا الخراب مجموعة من المشكلات الأخرى، بما في ذلك الأوبئة وحتى المجاعة في بعض الحالات.
وغالباً ما تبقى الأحياء مليئة بقنابل لم تنفجر، الأمر الذي يمنع العائلات من محاولة العودة إليها، أو إعادة بناء منازلها المهدّمة، ما يُسهم في تدمير سُبل العيش والقضاء على حياة البعض بعد نجاتهم من الموت جرّاء القتال.
ولا يقتصر استخدام هذه الأسلحة على الجماعات المسلّحة أو ما تُسمى بالدول المارقة، فبينما أعربت المملكة المتّحدة عن قلقها حيال استخدام تلك الأسلحة في مناطق آهلة بالسكّان، عمدت هي أيضاً إلى نشر تلك الأسلحة في مدن وبلدات عدة، وأطلقت بريطانيا آلاف القذائف المختلفة في كلٍّ من العراق وسوريا، وذلك في إطار قتالها ضد تنظيم “داعش”.
وحتى لو صدّقنا التأكيد المشكوك بسلامته الذي قدّمته وزارة الدفاع البريطانية، مشيرة إلى أن ضرباتها كلها لم توقع سوى قتيل مدني واحد، فإن الضرر الذي لحق بالبنية التحتية المدنية في الأماكن التي تعمل فيها القوّات البريطانية، مع التحالف الذي تقوده الولايات المتّحدة، لا يزال ماثلاً، وبينما تتعافى الموصل ببطء من آثار الدمار، لا تزال مدينة الرقّة السورية التي دمّرتها الأسلحة الجوية والبرّية الثابتة، أثراً بعد عين.
وبعد نحو 10 أعوام من إراقة الدم والدمار، بدأت الدول أخيراً استعداداتها لكتابة التزام واضح بتغيير ثقافة استخدام هذه الأسلحة. لقد حان الوقت بالنسبة إلى المملكة المتّحدة لأن تقود الجهود الرامية إلى صياغة هذه الالتزامات، والتمهيد لتوفير مزيدٍ من الحماية للمدنيّين أينما كانوا في مرمى النيران.