أسئلة كثيرة ترددت بعد الدعوة التي وجهها الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى لقاء المسؤولين الإيرانيين من دون شروط مسبقة خلال مؤتمر صحافي جمعه مع الرئيس الإيطالي في واشنطن.
ولعل المطلع على تصريحات الإدارة الأميركية الحالية يدرك رغبتها بالتفاوض مع إيران بهدف إبرام اتفاق نووي جديد يضع قيودا أكثر صرامة على البرنامجين النووي والصاروخي الإيرانيين ويرسم حدودا لحضور إيران في المنطقة. وهذا لم تخفه وزارة الخارجية الأميركية في عرضها لاستراتيجية ” احتواء إيران” والتي تضمنت اثني عشر بندا اعتبرتهم القيادة الإيرانية ضربا من الخيال الهوليوودي.
لكن الحديث عن تفاوض من دون شروط كان مفاجئاً حتى لبعض مسؤولي الإدارة الأميركية. أما في إيران فقد توالت ردود الأفعال على دعوة ترامب فجاءت على مستويات ثلاثة: الأول هو المستوى الدبلوماسي الذي عبر عنه وزير الخارجية محمد جواد ظريف ومستشاري الرئيس الإيراني حميد ابو طالبي وحسام الدين أشنا، مطالبين بوضع إطار لأي مفاوضات مع الولايات المتحدة يتضمن العودة إلى الاتفاق النووي وتعليق العقوبات المفروضة على إيران. أما المستوى الثاني فهو المستوى العسكري الذي عبر عنه قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري في رسالة نقلتها وسائل الإعلام الإيرانية، وقد خصصت للرد على تصريحات ترامب.
وإسراع الحرس الثوري إلى الرد على ترامب له دلالات ورسائل للداخل الإيراني كما للخارج واضحة لا تحتاج إلى الكثير من التفسيرات. فتلميح جعفري بقوله “إن الشعب لن يسمح لأي مسؤول بالتفاوض مع الشيطان الاكبر”، أقوى من تصريحه بما يعني أن التفاوض مع أميركا خط احمر بالنسبة للقوات المسلحة الايرانية وستكون له بالمرصاد.
أما المستوى الثالث فهو الذي عبر عنه الشيخ ناطق نوري عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام والذي رأى أنه من الضروري عدم رفض الدعوة الاميركية مباشرة بل ينبغي دراستها عبر المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني بتأنٍ وهدوء. وبالرغم من أن ناطق نوري غرد منفردا بين المسؤولين الايرانيين بهذا الرأي ما دفع ببعض الشخصيات الأصولية إلى انتقاده بشكل لاذع، إلا أنه يعبر عن شريحة ترغب بإعطاء فرصة جديدة للمفاوضات رغم اتفاق الجميع على أنه لا يمكن الوثوق بالادارة الاميركية خاصة إدارة ترامب التي لم تلتزم بالتعهدات والمواثيق الدولية وآخرها الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة خمسة زائدا واحدا.
وقد يجد المتابع للصحافة الإيرانية بين صفحاتها ما يعبر عن هذه الشريحة التي تشير إلى ضرورة معرفة النوايا الحقيقية للولايات المتحدة وإعادة الكرة إلى ملعبها من خلال لقاءات تجري على مستوى الخبراء، وإن صدقت النوايا تعقد على مستويات أعلى لقطع الطريق أمام أي ذريعة قد يتخذها ترامب بأن إيران ترفض الحوار.
ويذكّر هؤلاء بمفاوضات إيران وأميركا بشأن العراق وأفغانستان في السنوات السابقة، كما يشيرون إلى الانتصارات التي حققها محور المقاومة في المنطقة وحضور إيران وتأثيرها القوي ما يجعلها تفاوض واشنطن من موقع قوة وندية كاملة بل وبتفوق، نتيجة تراجع المشروع الاميركي وانكفائه في العراق وسوريا وغرق التحالف الذي تقوده السعودية بدعم أميركي في مستنقع اليمن .
حاولت إدارة الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما أكثر من مرة عقد هذه اللقاءات لكنها أرادت أن تبقى سرية. ورفضت إيران ذلك كما حاول ترامب التواصل مع روحاني عدة مرات خلال مشاركته في الجمعية العمومية للأمم المتحدة العام الماضي ولم يلق جوابا.
تعد العلاقة مع الولايات المتحدة في إيران من أعقد الملفات وأكثرها حساسية. فقد مضى أربعون عاما من عمر الثورة ولا تزال شعارات الموت لأميركا ولإسرائيل تصدح في كل المناسبات. والكره للإدارات الاميركية متجذر في نفوس الإيرانيين لأسباب تاريخية تعود إلى عام 1953 م، عندما أطاحت إدارة أيزنهاور بحكومة محمد مصدق وأعادت الشاه محمد رضا بهلوي إلى العرش.
ولم تحاول الادارات الاميركية المتعاقبة خلال السنوات الأربعين ابداء حسن النية أو الاقتراب خطوة واحدة باتجاه إيران، بل اعتمدت خطابا تحريضيا واستفزازيا فاتهمت طهران بدعم الإرهاب وصنفتها ضمن محور الشر ووظفت تأثيرها في المحافل الدولية للتحريض ضدها كما عرقلت التوصل الى اتفاق نووي بين إيران والترويكا الاوروبية منذ عام 2003 قبل اتفاق 2015.
قد يستذكر الإيرانيون عند الحديث عن الحوار الإيراني الأميركي اليوم كل هذه المحطات الأليمة لكن هذا التاريخ الحافل بالعداء الأميركي لا يجعل الحوار أمرا محرما كما قال رئيس لجنة الامن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الايراني حشمت الله فلاحت بيشه.
لكن العقدة ليست في الموقف الإيراني من الحوار مع أميركا بقدر ما هي في النوايا الأميركية المبيتة. فبرأي كثيرين لا تأتي الدعوة الصادقة إلى الحوار بعد قطيعة وعداء استمر لاربعين عاما، مباشرة عقب أسبوع أو أقل من التهديد والوعيد. ولا تكون بطريقة ارتجالية دعائية ( كما وصفها ظريف ) تهدف للحصول على مكتسبات داخلية ودولية من خلال تحسين صورة ترامب، إنما تأتي عبر استراتيجية مدروسة تعمل بداية على تذليل العقبات وابداء حسن النوايا لتنتقل بعدها إلى عقد لقاءات بين مسؤولي البلدين. .