“إما أن نعيش كأحرار للأبد، أو نموت بالانتحار.”
الكاتب : كنعان مكية
عام ١٨٣٦ ألقى الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن خطاب، فيها سأل الجمهور: “متى علينا ان نتوقع لحظة الخطر؟ وكيف نحصن أنفسنا ضدها؟” فأجاب: “عندما تنبع من بين صفوفنا … لا يأتي الخطر الحقيقي من الخارج، وإذا كان الدمار مصيرنا، فلنعترف أننا كنا مؤلفي قصتها، بما فيها نهايتها المأساوية، التي اختلقناها بأنفسنا.” أنهى كلامه ذلك الرئيس الذي اغتيل غدراً لصراعه المستميت ضد لعنة العبودية في القارة الأمريكية بالقول:
“إما أن نعيش كأحرار للأبد، أو نموت بالانتحار.”
العراق اليوم يعيش لحظته الانتحارية. نعم، اغتيل أبراهام لنكولن في الماضي، كما ان الجماعات المسلحة تقتل وتخطف وتقنص بشباب المستقبل العراقي في الحاضر. رغم ذلك عاش اسم أبرهام لنكولن على الرغم من قاتليه، وذلك عندما أصبح ميراثه إنقاذ الشعب الأمريكي وهو في جنينه من كابوسه الأكبر منذ النشأة؛ العبودية.
ما هي الطائفية العراقية إن لم تكن صنفاً خاصاً بالعراق من نفس تلك العبودية؟
عكس الطائفية، روعة فكرة العراق أنها توحي بجمع الشمل، لا تقسيمه على نفسه. جمع الشمل هو مصدر قوة وإنسانية وجمال هذه الفكرة، ما دامت تستطيع العيش من دون الانتحار، حباً بالحياة ومتجسدة ونابعة بالفعل، لا بالاسم فقط، من شعب وحكومة حقاً يمتلكها ذلك الشعب.
في أجٌلِ وأسمى معاني فكرة العراق، تكمن ما علينا تسميته بنوع خاص من الحب: حب الآخر الذي يختلف عنك تماماً، ولكنه رغم ذلك منك واليك وانت (أو أنتِ) بحاجة ماسة اليه، بنفس القدر الذي هو (أو هي) بحاجة ماسة اليك. باشتعال فتيلة مثل هذا الحب، تتحول الجماعة التي تسعى من أجلها – أي شباب العراق الثائر على جيلي؛ الجيل المسؤول عن طائفية الدولة العراقية اليوم — الى جزءً لا يتجزأ مما يمكن تسميته وجدان أو روح واحدة؛ هو ذا مقصد الحديث النبوي، “حب الوطن من الايمان”.
في الحياة، أحياناً قد تتبرك حركات جمع الشمل كالتي نراها في ساحات وشوارع العراق منذ تشرين العام الماضي بمثل هذا الروح، هذا النوع من الحب. والدليل على ذلك هو ما شاهدته، وشاهده العالم بأكمله، عندما كانت حشود الشباب والشابات تلف وتدور حول الساحات والشوارع والمدن، وذلك باسم العراق.
في الأزمنة العصيبة والحالكة، كالتي يعيشها العراق اليوم، ينبغي لـ “حب الوطن” ألا يُعامل بوصفه امرأ مسلماً به. فكما تخلق ويعيش، يمكن أن يد ّمر. والأرجح، كما نفهم من خطاب لينكولن، ان تأتي قوى الدمار من الداخل لا من الخارج. ولكن كي ينجح التخريب، يجب ان يستهدف أواصر هذا “الحب”، تلك التي استمرت بالتطور عبر أجيال في الماضي. هذه الأواصر الجديدة نسبياً في دول المشرق العربي، أي أواصر المواطنة العراقية الحديثة، هي معقل الدفاع عن حقوقنا الإنسانية الفردية الأخرى، وعلى رأسها الحق في أن لا تُمس أجسادنا ويلحق بها الأذى المبٌرح، كما تفعل الجماعات المسلحة الموالية للفكر الطائفي بشباب العراق اليوم. لنتذكر ان كثيراً من الجمهوريات الاستبدادية لديها دساتير تحتوي على اشارات الى “حقوق الإنسان”. المشكلة لا تكمن في الدساتير والقوانين، بقدر ما تكمن في الأرضية الأخلاقية ومجموعة القيم والمفاهيم التي تؤسس للمواطنة الحديثة، وكل هذا لا يأتي من فوق كمنحة من السلطة، بل من تحت عبر المطالب التي توجه للسلطة والنخبة السياسية برمتها. لذلك نحن في أمس الحاجة الى الدفاع عن أواصر المواطنة الناشئة والمتجسدة في “دولتنا” لا “دولتهم”؛ دولة الجماعات المسلحة، لأن البديل هو الهمجية والتخلّف المرعب لأجيال.
حب الوطن، بمعنى الولاء لمكان معين ومحدد للغاية، ومرتبط بنوع من الشعور بالحنين لنمط حياة حدث في ذلك المكان، فيه شيء جيد ومريح للنفس؛ شيء شخصي وفردي ومن المحرج ان نتحدث عنه أكثر. الحس الوطني إذن لا يمكن ان يُنسى بسهولة، والمرء يعدّه غالباً أفضل ما في العالم بعد عائلته، لكنه يجد في الوقت نفسه مشقّة في التعبير عنه. كما ان هذا الشعور في غاية الخصوصية، وليس للمرء أدنى رغبة في ان يفرضه على سائر الناس. من هنا، فإن الحس الوطني الحقيقي لا بد من أن يكون أمراً شخصياً ودفاعياً بالطبع، لا يمت بصلة الى التوسع العسكري أو اندحار خصوصية الآخر.
كارثة النظام الذي تأسس بعد السقوط، وبالأخص حكومتا عادل عبد المهدي ونوري المالكي السابقتان، انها لم تؤمن، ولا للحظة أو حتى بالغلط، بذلك الكيان في الروح الذي أسميته “العراق”. عبد المهدي يؤمن بالإسلام السياسي وبمثال الثورة الايرانية باعتبارها في طليعة ثورة “الشيعة” العالمية كما يزعم؛ أما المالكي فهو لا يؤمن بشيء عدا السلطة، وذلك لنفسه فقط. الاثنان لعبا الدور الرئيسي في بناء الدولة الطائفية العراقية والتي أساسها الكراهية لا الحب. مقابل أمثال هؤلاء، تقف حشود شباب عراق المستقبل الذي يتجسد فيها ذلك الروح الجامعة والشاملة للكل في سبيل هذا الوطن الجريح.
نعم، العراق يعيش اليوم لحظته الانتحارية. كتب التاريخ ستسجل ان في هذه اللحظة رسم خطاً أحمراً بدم شباب العراق، خط يفصل بين الفكر الطائفي وفكرة العراق الذي مات من أجلها شباب وشابات لا يعرفون غير ذلك الوطن الذي سلب مستقبله منهم غدراً. عندما أفكر في تضحياتهم، تأخذني هيجان المشاعر أن أتذكر رمز الحرية العظيم في ساحة التحرير في بغداد وهم يدورون حولها. ما روعة المشهد! أراد جواد سليم ان يكتب قصة الحرية في العراق، ولكنها لم تتحقق كما تخيلها الفنان بعد ثورة ١٤ تموز؛ كما لم تتحقق بحكم البعث، بل ذابت الى آخر ذراتها. رغم ذلك بقي ذلك الشيء الذي اسمه العراق، ولو بشكل مشوه، الى ان جاء السقوط في ٢٠٠٣. من هنا انطلقت قوى الدمار بقيادة النخبة الحاكمة الشيعية الجديدة لتهجم على فكرة العراق. وانفجر غضب الشباب الشيعي العراقي العفوي عليهم، ليرسم ذلك الخط الفاصل بين فكرة العراق وبين نظام طائفي مفلس تابع للحرس الثوري الايراني. قد يفشلون هؤلاء الأبطال، وقد ينتصرون على المدى البعيد، كما انتصر لينكولن. الفاجعة تكمن في أن أعداد الضحايا من بين صفوفهم ستزداد. ولكنهم ليسوا انتحاريون، بل هم يموتوا كي تعيش فكرة العراق، التي من دونها ستصبح الحياة برمتها “مقرفة ومتوحشة وقصيرة” على حد تعبير المفكر الإنكليزي توماس هوبز (١٥٨٨ – ١٦٧٩).