قبل إختراع الإذاعة والتلفزيون كانت الصحف هي التي تختزل الإعلام. وبرغم كل ماكانت تتمتع به الصحف الورقية من مصداقية فإن الناس كانت حين لاترضى على شئ تطلق عليه (حكي جرايد).
حتى بعد إختراع الراديو ومن بعده التلفزيون بقيت السيادة للصحافة الورقية.وبقيت عبارة (حكي جرايد) راسخة في إذهان الجمهور. فلم يقل أحد مثلا حكي إذاعة أو حكي تلفزيون. مع بدء الموجة الثالثة التي بشر بها عالم المستقبليات الأميركي الفن توفلر في سبعينيات القرن الماضي عبر كتابه “صدمة المستقبل” تغيرت الكثير من المفاهيم والقناعات. فلقد تنبأ بأن العالم سيصبح قرية صغيرة.
بالفعل تحققت نبوءته ربما أكثر بكثير مما توقع أوحلم به. فالعالم اليوم لم يعد قرية بل صار سلسلة تطبيقات رقمية في الغالب تختزلها مابات يعرف بمواقع التواصل الإجتماعي “السوشيال ميديا”. مع ظهور الشبكة العنكبوتية “الإنترنت” إتسع نطاق المجال الإعلامي وصرنا أمام أنماط جديدة من التنافس على نيل قلب وجيب المتلقي مشاهدا كان أم قارئا ام سامعا وبالتالي ناقلا للمعلومة وربما مشاركا في صنعها وبثها ونشرها على أوسع نطاق. لكن ماذا عن المعايير؟ هذا هو السؤال الذي بات يحتاج الى جواب دقيق.
إذا كانت الصحافة الورقية تستند على معايير هي الاشد صرامة في كيفية التعامل مع المعلومة وكيفية صياغتها في خبر أو تقرير او تحقيق أو قصة خبرية فإن الإذاعة والتلفزيون هي الاخرى تستند الى معايير وأحيانا مواثيق شرف. بيد أن باقي التطبيقات الإعلامية ليس فقط تفتقر الى المعايير بل تفتقر الى المصداقية في كيفية تمييز الخبر الكاذب والملفق.
ولأن المعلومة أية معلومة لم تعد تمر عبر كونترول من خلال الإعلام الذي يعتمد على معايير صارمة في النشر فإنها باتت ملك مابات يطلق عليه “المواطن الصحفي” وهو كل مواطن يملك جهاز تلفون ذكي. وصلنا الآن الى المرحلة الأخطر وهي ما يمكن أن أسميه “إعلام اليقولون”.
بسبب الفوضى وعدم وجود معايير ومواثيق وأصول فإن مابات يعلن عنه هو عبارة عن تداول معلومات أو حتى فيديوات او وثائق تمثل وجهة نظر صاحبها. ولاتهدف بالضرورة الى الوصول الى الحقيقة بقدر ما تستهدف طرفا إما بالإبتزاز أو التسقيط أوالتشويه. فما أن تنشر وثيقة أو صورة أو معلومة عبر السوشيال ميديا بدون حسيب ولا رقيب سرعان ما يجري تداولها وعلى أوسع نطاق مصحوبة بمفردة واحدة هي “يقولون”. يقولون أن فلان الفلاني سرق مليار دولار.
يقولون أن فلان الفلاني أنفق على حملته الإنتحابية 50 مليون دولار. يقولون أن فلان إنسحب من الإنتخابات مقابل كذا مائة مليون. وأن فلان نقل كذا مليون او ربما دولار الى الخارج وهكذا. فبإمكان القارئ الكريم أن يضيف من عنده مالا عد له ولا حصر من “اليقولون”.
المشكلة أن هناك من يصدق إعلام اليقولون أكثر مما يصدق الإعلام الذي لايزال يكافح من أجل الدفاع عن القيم الصحيحة في ظل فوضى موجة توفلر الثالثة التي “عمت علينا وعلى سابع جار”.