إصلاح الجهاز الإداري للدولة العراقيَّة
د. نوفل أبوالشون الحسن
مع تصاعد الأحداث الساخنة في العراق في فصل الصيف، وقرب موسم الانتخابات، وانعكاس الاحداث الاقليمية على العراق، قد يبدو للوهلة الأولى أن الحديث عن اصلاح الجهاز الاداري للدولة ومؤسساته الحكومية موضوعاً غير مناسب. بغض النظر عما ستنتجه الانتخابات المقرر اجراؤها في تشرين الاول المقبل، فإن الحكومة المقبلة (أي حكومة) ستواجه تحديات كثيرة وكبيرة لإقناع جماهير غاضبة من تردي الخدمات وتضاؤل فرص العمل، وتراجع الثقة بالطبقة السياسية وبمؤسسات الدولة وأدائها. وربما ستكون المفارقة الكبيرة هي أن مؤسسات الدولة التي يناط بها مهمة توفير الخدمات المتردية او المفقودة أصلاً، ربما تكون هي أكثر الجهات حاجة للاصلاح الجوهري. ومن دون اصلاح المؤسسات الحكومية والجهاز الاداري فيها ستبقى محاولات الاصلاح في المجالات الاخرى مجرد حبر على ورق. يقسم فرانسس فوكوياما في كتابه (بناء الدولة) الدول وفقاً لمعيارين رئيسين الاول: قوة الدولة وقدرتها على تخطيط وانفاذ برامجها، والمعيار الثاني يتعلق بسعة وتنوع هذه البرامج. وتتسم الدول المتقدمة اقتصادياً بقدرتها العالية على تخطيط وتنفيذ برامج اساسية تحتاجها مجتمعاتها وتترك الجزء الاكبر من النشاطات للقطاع الخاص والمؤسسات غير الحكومية. أما الدول التي تتورط فيها الدول باحتكار أجهزتها الحكومية لمساحة واسعة من النشاطات مع تدني قدرتها على التخطيط الملائم والتنفيذ لخططها، فتقبع عادة في أدنى مستويات وتصنيفات الاداء والفعالية. وفي العراق فإن مساحة وسعة القطاعات التي تشرف وتتدخل الدولة فيها بدئت بشكل مختصر عند تأسيس الدولة الحديثة قبل قرن، مقتصرة على مجالات اساسية لسيادة الدول كالأمن والدفاع والحدود والسياسات المالية والنقدية والعلاقات الخارجية. غير أن مساحة تدخل الدولة توسعت مع الزمن وتغيير أنظمة الحكم، لتشمل مساحات واسعة غطت معظم الانشطة الاقتصادية والاجتماعية والتعلمية والثقافية. صاحب هذا التوسع الافقي بمساحة القطاعات التي تتدخل فيها مؤسسات الدولة زيادة في اعداد موظفي الدولة ونفقات تشغيل الجهاز الحكومي ومؤسسات الدولة المختلفة. ولكن لم يصاحب هذا التوسع ما يعادله بقوة ونوعية المنتج النهائي. لم يتجاوز عدد الموظفين والمستخدمين في دوائر الدولة العراقية ربع مليون في 1971. بعد ثلاثة عقود تضاعف عدد الموظفين أربعة مرات ليصل لأكثر من مليون موظف في العام 2003. ثم تضاعف أكثر من اربع مرات اخرى بعد عقدين ليصل لأكثر من اربعة ملايين في عام 2021 (فضلا عن أعداد كبيرة اخرى تتضمن العاملين في الشركات المملوكة للدولة والعقود والأجراء اليوميين وسواهم). تشير التقارير الدولية الى أن هناك أداء متدنيا لأجهزة الدولة في العراق، في معظم المؤشرات الاقتصادية والحكومية، لا يتناسب مع المبالغ الكبيرة التي تخصص لنفقات الحكومة التشغيلية والاستثمارية. وينعكس فشل الدولة بتقديم الخدمات الاساسية على الوضع الأمني والسياسي الهش، كما يدفع بالمزيد من الاحتقان الشعبي ويقلل من الاستقرار الاجتماعي المطلوب لأي عملية تنمية اقتصادية. من الواضح أن تعريف النجاح والانجاز وطرق قياسه مختلفة بين المعايير الدولية وبين المعايير المعتمدة في التقارير الرسمية الحكومية. مثلما أن التصورات الشعبية مختلفة تماماً عن الاخيرة. لا يمكن أن يتفاجأ المراقب من انفجار شعبي عندما يرى النخب الرسمية تكرر سرديتها للنصر والإنجاز المتخيل. بينما يعيش بعض صناع القرار في فقاعة الزهو الموهوم، تعيش الغالبية العظمى من المواطنين في واقع يومي يصعب أن تستره البيانات والتقارير. ولغرض معرفة أسباب تباين قدرة المؤسسات الحكومية في تنفيذ برامجها (ضعفاً وقوة)، ينبغي تحليل طبيعة مؤسسات الدولة وكذلك جهازها الاداري وطرق الاختيار والتعيين والترقية للكوادر والقيادات، والعلاقات الداخلية وآليات التخطيط وصنع القرار وتنفيذه، ومراجعة وتقييم الاداء بشكل علمي وموضوعي. كما ينبغي تفكيك تداخلات المؤثرات الخارجية على المؤسسات الحكومية، وعلاقتها مع المؤسسات الاخرى والافراد والجهات المستفيدة من نشاطات المؤسسات. من جانب آخر لا بد من مراجعة تمويل المؤسسات وتقييم جدوى وجود الكثير من المؤسسات بالمقارنة مع النفقات التي تصرف عليها.يعزو جيمس روبنسن ودارين أجيموغلو في كتابهما المثير {لماذا تفشل الأمم؟ أصول السلطة والازدهار والفقر} فشل دول كثيرة وأمم قامت على مر التأريخ البشري وفي مختلف بقاع الأرض لسبب عدم وجود {مؤسسات شاملة للجميع}. ويميز المؤلفان المؤسسات الشاملة بقدرتها على رعاية وتوجيه المواهب والكفاءات والطاقات لدى جميع مواطنيها، وسماحها للنمو والتطور الاقتصادي والمشاركة السياسية للجميع. وبالعكس فإن وجود “مؤسسات استحواذية” تتصف بالانغلاق على فئات محددة، واحتكار ادارة العمل السياسي ضمن أندية مغلقة، وحصر العمل الاقتصادي بالحلقات المتخادمة معها فحسب، لا يشكل إلا وصفة تلقائية، في كثير من الأحيان، للتحول لدول فاشلة، ولو بدا أنها نجحت في تحقيق تنمية او نمو اقتصادي لفترة من الزمن. ويلعب وجود حكومة مركزية فعالة قادرة على تزويد مواطنيها بالحاجات الاساسية، والمحافظة على النظام العام، وتفويض أغلب الصلاحيات غير الضرورية لمؤسسات طرفية ومحلية حكومية أو أهلية أو مجتمعية أخرى دوراً اساسياً في نجاح الدول اقتصادياً واستقرارها اجتماعياً. من المؤكد أن الحكومة المقبلة ستواجه أعباء كثيرة في الجانب السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي. غير أن مهمة اصلاح جهازها الاداري ستكون هي الفيصل في استشراف إمكانية نجاحها في تنفيذ برنامجها المرتقب. ليس ترفاً أن تولي الكتل الفائزة (التي يفترض أنها ستشكل الحكومة الجديدة) الاولوية لتشكيل فريق حكومي منسجم فعّال وقادر على النهوض باصلاح الأسنان المفقودة او المعطلة للدولة ومؤسساتها، قبل أن تغلق نافذة الإصلاح التي تتقلص مساحتها بمرور الأيام.