الاولى نيوز / مقالات
إن تغيُّر أنماط الاستهلاك التدريجي العالمي نحو الطاقة البديلة ولأسباب بيئية واقتصادية، وتراجع أسعار الطاقة التقليدية من النفط والغاز، شكل تحدياً مهماً وخطيراً لاقتصاديات الدول المنتجة لها، وخصوصاً تلك التي تتصف بأنماط استهلاكية عالية، في مثل هذه الاقتصادات تميل فيها كفة الواردات على الصادرات، حيث تغطي وارداتها معظم أنماط استهلاكها من سلع وخدمات، وهو ما يشكل خللاً كبيراً في ميزان مدفوعاتها وينعكس سلباً على قوة اقتصادياتها مستقبلاً، لاعتماد دخلها القومي بشكل كبير على النفط والغاز، والذي يمثل شكلاً أحادياً بعيداً عن التنوع في ناتجها القومي، وهو طريق يؤدي إلى الانهيار خلال ربما أقل من عقدين من الزمان إن لم تسارع إلى تلافي تلك الفجوة والعمل على تقليصها خلال تلك الفترة الزمنية الضيقة والحرجة.
ومن هنا تبدأ الحاجة إلى بناء مشروع اقتصاد متنوع ومتعدد في مصادر الدخل القومي، وهي مهمة وطنية بامتياز وغاية صعبة المنال، تحتاج إلى تجرد وشعور وطني يتسم بالقوة لاجتياز العقبات، وهو مقوّم وركيزة أساسية في مفهوم قيام وبناء الدولة الوطنية الحديثة، لمواجهة التحديات الكبيرة والمتعددة والمتجددة والمتغيرة دوماً من حولنا، وهي معادلة من الصعوبة بمكان تحقيقها اليوم ضمن عالم تحكمه الكثير من المصالح والتفاهمات المتقاطعة، فالعالم بات سوقاً كبيرة، بدأت تتحكم فيه ومنذ عقود شركات عابرة للحدود والقارات اتخذت شكل اندماج واتحادات عالمية للمصالح بحثاً عن المواد الأولية وأسواق العمل واليد العاملة قليلة التكلفة كثيرة الوفرة والرخيصة من أجل تقليل التكاليف لغرض البقاء والاستمرار داخل منظومة المنافسة المتوحشة والمتصاعدة في كسب الأسواق وما أطلق عليها اصطلاحا “الحروب الاقتصادية”.
لقد اتخذت هذه الشركات الكبرى والاتحادات مسميات أطلق عليها “الترستات والكارتلات”، ومن بين أهم نشاطاتها الاقتصادية السلاح والطاقة والتكنولوجيا والغذاء والدواء، وطبعاً تتبعها صناعة العصر والقاطرة الجديدة ألا وهي الإعلام، إنها سلسلة متشابكة ومعقدة ولكنها مترابطة وبشكل مؤسسي متجذر، وهي بطبيعة تكوينها الهيكلي لا تملك معالم أو جنسية، بل تعدت ذلك المفهوم الضيق وعبرت الحدود الجيوسياسية حول العالم.
إن مثل هذه القوى الكبيرة أصبحت تشكل وتمثل لوبيات مؤسسية حول العالم، وتؤثر في صناعة القرار السياسي والاقتصادي للكثير من البلدان، وكذلك أنماط الإنتاج والاستهلاك، وبات لها تأثير كبير حتى في تغيير الحدود والتقسيمات التقليدية للكثير من البلاد تبعاً وتوافقاً مع ما تقتضيه مصالحها والمناخ السياسي العالمي الجديد، وهو ما أدى بالنتيجة إلى تغيير الكثير من الأنظمة السياسية التقليدية وحسب الحاجة المتغيرة لتحقيق أهدافها، بما فيها تمويل حركات التمرد والحروب الأهلية، والتي باتت تسمى الحروب بالإنابة.
من هذا كله وحين نستعرض أحوالنا نرى صورةً ومستقبلاً رمادياً تتضائل فيه الآمال، وهذا هو المطلوب والمفروض تحقيقه وإثباته وتكريسه في وعينا وثقافتنا، ولكنه ليس مجمل الصورة الحقيقية، بل هي الصورة التي يريدوننا أن نراها ونرى العالم من خلالها، ومن يعتقد بذلك ويصدقه ويسلم به، فهو مخطئ بشكل مأساوي، وهو مفهوم تم تكريسة من خلال السيطرة على الوعي وعبر عقود لأجل إحباطنا وتسليمنا بأمر هو ليس واقعاً حقيقياً بالمجمل، وفيما يتعلق بمقدراتنا ووجودنا، كل الذين سلموا بهذا الواقع من حولنا هم الذين أوصلوا بلادهم إلى ما نحن عليه ونراه من فوضى من حولنا.
لابدّ لنا من وقفة نستعرض فيها إمكاناتنا وقدراتنا وموقعنا على خارطة العالم، فالمعادلة كما وصفتها هي تمثل طموحاتهم وأطماعهم وهي نصف المعادلة وجانبهم من المشهد وكما يرونه ويعملون على تحقيقه، وهي نصف الحقيقة، والنصف الآخر هو نحن، وما نمثله وما نملكه وما نحن متمكنين منه، وما يجب أن نعي قيمته الحقيقية بموضوعية وتبصر.
إن ما يقرب من نصف الإنتاج العالمي للطاقة واحتياطياتها ومخزونها يقع ضمن حدودنا السياسية “والتي يرومون تشكيلها من جديد بما يناسبهم لأجل المزيد من إضعافنا من خلال تفتيتنا”، نحن نشكل رقماً كبيراً في صادرات العالم من السلع والبضائع بما فيها الدواء والغذاء والتكنلوجيا والسلاح، من خلال أنماط اقتصادياتنا الاستهلاكية بشكل عام، ونحن أيضاً نشكل ومن خلال موقعنا الجغرافي والمفصلي على أهم وأخطر الطرق للتجارة العالمية من المواد الخام الأولية والطاقة والإنتاج الصناعي والزراعي، أي بعبارة أخرى العالم يتوزع بين عناصر أربع، المواد الأولية والثروات ومصادر الطاقة، وطرق التجارة العالمية، ووسائل الإنتاج “بما فيها العنصر البشري والصناعة والزراعة والتكنلوجيا”، والعنصر الرابع والأهم هو المنافذ والأسواق، وهو ما جعلنا ولعقود طويلة مناطق نفوذ استراتيجي مهم بالنسبة للغرب يحاول دوماً تشكيلها بما يناسب مصالحه من خلال الصراع عليها ولأجلها، وهو السبب الحقيقي لما نراه اليوم من فوضى وصراعات من حولنا.
دعونا نتأمل في قوله تعالى: “وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا”، إن من بين أهم سبل التعارف بين البشر كانت التجارة والتي كانت بداياتها البسيطة من خلال المقايضة كوسيلة لإشباع الحاجات المتنوعة وكشكل أولي من أشكال تقسيم العمل، من هنا ومن خلال هذا المفهوم لابد لنا أن نعلم ونعي وندرك الأهمية الخطيرة لما هو بين أيدينا ونملكه، وخطورة وأهمية تأثيره كحاجة وقيمة على حياة الآخرين، فالحياة هي بكل وضوح وببساطة هي أخذ وعطاء، وليست معادلة أحادية الجانب كما يفهمون، حتى ولو من خلال القوة، لا بد أن نعد على أصابعنا ما نملكة وما نحن عليه قادرون، ونحرص عليه وعلى كيفية استثماره سياسياً وإقتصادياً لكي نعلم ونعي خطورة وقيمة وأهمية ما نمتلكه وبين أيدينا وما نقايضه به ومن خلاله.
العالم من حولنا يروي لنا الكثير من قصص النجاح للعديد من البلاد من حولنا وفي العالم، والذين باتوا في مصاف الدول الغنية والمتقدمة حضارياً من خلال الاستثمار في إمكاناتهم المتاحة، فلا شيء مستحيل أمام الإرادة والإدارة والعزيمة والتصميم، فالمعركة اليوم هي معركة وعي في كيفية استثمار طاقاتنا وملكاتنا، تحدثت في مقالات عديدة سابقة حول موضوع مفهوم الدولة الوطنية الحديثة كطريق وحيد للتمنية، وهي مع كل ما سبق تحتاج إلى إرادة تغيير قوية وقادرة على خلق شعور وانتماء وطني حقيقي، يؤمن بإمكانية التغيير من خلال البناء وذلك لا يكون إلا من خلال الاستثمار في العمل، والارتقاء والنهوض بمدارك ووعي العنصر البشري ليكون قادراً ومستوعباً لمتطلبات التنمية من خلال التأهيل والتثقيف العلمي والقيمي، فالاستثمار في الإنسان هو المدخل الرئيس نحو قيام ونجاح الدولة الوطنية الحديثة.
لقد أدركتْ بعض الدول العربية من حولنا كالسعودية والإمارات والجزائر ومصر والمغرب وغيرها، ومن قبلها إقليمياً تركيا، أهمية هذا الدور واتخذته كمشروع للتطوير نحو حياة أفضل، كما وأدركت أهمية التنوع والتعدد في مصادر الدخل القومي، وبدأت بخطوات جدية وعملية على هذا الطريق، وكانت سباقة للسير على هذا النهج الإصلاحي بوعي وعزيمة من خلال رؤية مستقبلية تعتمد التجريب والجرأة والكثير من التحدي، كبداية حقيقية على طريق التنوع والتعددية الاقتصادية.
لقد سبقتنا بعض الدول عربياً وإقليميا في آسيا وأفريقيا في طريق الإصلاح والتنمية الزراعية والصناعية، منذ عقود طويلة وأصبحت رائدة في هذا المجال، كي تكون مُدخلاً نحو مستقبل مليء بالتحديات وبناء كيان اقتصادي متنوع يواكب متغيرات الحاضر، والقدرة على مواجهتها بأسلحة العصر ومفاتيحه من خلال الفهم والاستيعاب لكافة التداعيات والمستجدات المتسارعة من حولنا.
لقد تخلفنا كثيراً عن ركب الحضارة والتقدم ليس بسبب توقف عجلة التنمية والبناء والتطوير والإحلال والإدامة بشكل كامل، بل نتيجة التدمير الكامل الذي أصاب كل المرافق والبنى التحتية وما رافقة من تدمير للنشاط الزراعي والصناعي، لنصبح اقتصاداً مستهلكاً وغير منتج يعتمد على الصادرات في ميزانه التجاري، مما أدى إلى استنزاف حقيقي لكل مدخراتنا ومواردنا، في حين كان العالم من حولنا يسابق الزمن ويتبنى رؤى موضوعية للتسلق والصعود نحو آفاق مستقبلية يلاحق ويسابق فيها عامل الوقت والزمن، للحاق بركب الحضارة والمدنية، وحققوا الكثير من النجاح في ذلك من خلال النتائج على أرض الواقع، والتي يشهدها الإقليم والعالم.
لابدّ أن، وكما تقتضيه الأمانة العلمية والأكاديمية البحثية، أن نضيف إليها تجربة فريدة ورائعة لابد من الإشادة بها، تتمثل في النهضة والتطور الهائل الذي حققه إقليم كوردستان العراق في تحد وانسلاخ حقيقي عن الواقع المأساوي والتردي الذي أصاب باقي الجسد العراقي، إن تجربة إقليم كوردستان العراق تحتاج إلى الكثير من التأمل للوقوف عندها ودراستها للاستفادة منها كخطوات ولبنة حقيقية وكأنموذج نحو بناء الدولة الوطنية الحديثة، رغم كل ما واجهها ومايزال من تحديات، هذه التجارب في مجملها أصبحت قدوة وطموحاً يُحتذى به، كتجارب وطنية رائدة، تمثل أنموذجاً للإرادة الوطنية وإمكانية تحقيقها ونجاحها.
لابد لنا من إعلاء القيم والتجارب الناجحة وإظهارها من حولنا، لكي يبقى الأمل طريقاً متاحاً لكل الوطنيين والشرفاء والذي يحلمون ويسعون إلى التغيير نحو مستقبل وغدٍ أفضل، فالطامعون من حولنا متربصون بنا، والإقليم من حولنا يسير حثيثاً نحو مستقبل مجهول المعالم، من التفكك والتشرذم والتقسيم، ولم تعد هناك فسحة من الوقت للبقاء طويلاً كما تعود الكثيرون على مقاعد المتفرجين.
هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر “الاولى نيوز”