آفاق النهضة الإقتصادية في العراق
آفاق النهضة الإقتصادية في العراق – علي الشكري
المتتبع لتجارب الدول في نهضتها الاقتصادية ، يجد أنها وليدة معاناة وانتكاسات وربما تضخمات اقتصادية وكسادات ، وكثيراً ما كانت مآسي الحروب الدولية وويلات الصراعات الداخلية هي الباعث الدافع على النهضة والإقبال على التغيير ، خرجت رواندا من الحرب الأهلية وهي مهشمة اقتصادياً ، مدمرة بنيوياً ، مهزومة نفسياً ، مفككة اجتماعياً ، متأخرة علمياً ، معدمة صحياً ، فلم يكن أمامها الا أحد حلين ، أما الشروع بالنهضة أو معايشة الواقع وقبول القائم والركون الى الكفاف ، فأختارت الاصعب ، وجنحت الى لملمت الجراحات ، وجمع الأفكار ، ووضع الخطط ، ومصارحة الشعب بحقيقية الموروث ، وما سيؤل اليه الحال لو تم قبول القائم والركون الى السكينة ، فكان لها ما أصبح وراحت مثلا يحتذى به في بناء المجتمع ونفض غبار الماضي والنهضة الاقتصادية ، شارعة في نهضتها بحقل التعليم لاعتقاد المتصدي أن لا نهضة بنيوية دون قاعدة علمية وطنية ، ويقيناً أن الاستثمار في حقل بناء الإنسان ، هو الاستثمار الذي لن يكسد ولو اصاب العالم الركود ، وابتلي الاقتصاد بالنكسة ، فكلفة الأمية على حد تعبير المستشار الألمانية المنصرفة ” ميركل ” أعلى من كلفة العلم مهما ارتفعت كلفته . وأولى القائم على قرار الاقتصاد ، الزراعة اهتمام استثنائي ، فاتجه الى دعم العاملين في هذا القطاع بقروض ميسرة وادخل التقنيات الحديثة في الزراعة والإرواء وحَدَ من الاستيراد ، فراح القطاع مزدهراً مشكلاً الرافد الاهم للاقتصاد الرواندي ، فضلاً عن توفيره فرصة العمل للباحث عنها ، فانخفضت نسب البطالة ، وتراجعت معدلات الفقر ، فالقطاع الزراعي الوعاء المتسع ولو ازداد المقبلين عليه طلباً للعمل . ولا تزال تجربة مهاتير محمد في ماليزيا تجربة مثالية تُدّرس في الجامعات ، وانموذجاً يحتذى بها ، ولراسم السياسة الاقتصادية في العراق اتخاذها تجربة في الشروع بنهضة شاملة ، لاسيما وأن ظروف ماليزيا القومية والطائفية تقترب كثيراً من تلك التي في العراق ، فقومياتها الصينية والهندية والملاوية ، تتقاسم التكوين القومي للشعب ، ودياناتها الإسلامية والبوذية والمسيحية والهندوسية هي الديانات السائدة ، وهم ليسوا على قلب رجل واحد ، بل كثيراً ما ساد علاقتهم الاختلاف والتنازع ، وعلى حدٍ سواء مع ماليزيا قبل النهضة ، عمّ الخراب في العراق كل القطاعات ولم يبقَ قطاع ناهض يمكن الحديث عنه ، فالزراعة غائبة حتى راح العراق يستورد الفاكهة والخضر من دول الجوار ، فانتعش المزارع الأجنبي واتجه المزارع العراقي صوب المؤسسة العسكرية ، ومن لم يجد الفرصة فيها راح يفترش ببضاعته بخسة الثمن الأرصفة والإشارات الضوئية ، ولا حديث يدور عن الصناعة بل اضحى القطاع الصناعي الحكومي غائب مغيب بتخطيط وفساد ، فازدهار الصناعة العراقية يعني كساد صناعة دول الجوار ، بلحاظ أن السوق العراقية أضحت رائجة لكل باحث عن التسويق والتصدير ، وكل محاولة للنهضة بهذا القطاع يعني الهجمة الإعلامية ، والاستهداف الشخصي ، والاتهام بالفساد ، وربما إذا استمر بمشروعه النهضوي ، الحكم عليه والتغييب في غياهب السجون.احادية الاتجاهأما التجارة الخارجية فهي احادية الاتجاه ، استيراد دون تصدير ، واستهلاك دون انتاج ، وإعفاءات للبضاعة الواردة وضرائب على النزر اليسير للصادرة ، والحصيلة بطالة وفقر وكساد وارتفاع نسب الموازنات الاتشغيلية وانخفاض الموازنات الاستثمارية ، وتراجع قطاع التعليم في العراق ، فزيادة غير مدروسة في أعداد الجامعات الخاصة، والدارس فيها يدفع القسط الدراسي بقصد الحصول على الشهادة لا بقصد تلقي العلم والاستزادة منه ، أما الأغلب الأعم من المدارس الخاصة راحت وسيلة لاستيعاب القادر على السداد بقصد الجلوس في صف يليق بطالب يبحث عن الرفاهية ، أما العلم فيها غائب مغيب ، والدارس فيها يتنقل بين الاساتيذ بقصد الحصول على العلم مقابل اقساط مالية إضافية ، ويحدثونك عن قطاع الطاقة في العراق وما يشهد من نهضة ، وما يُنفذ من برامج تطويرية ، وغازه محروق ، وبانزينه مستورد ، ونفطه الأسود مهدور ، والمسروق المهرب من النفط الخام في تزايد . ويقيناً أن التجربة السنغافورية في النهضة والاستثمار في التعليم والبنى التحتية ومكافحة الفساد يمكن أن تشكل خارطة طريق للباحث عن البناء والنهضة ومحاربة الفساد ، فسنغافوره بلد صغير محدود الموارد ، عدد سكانه لا يتجاوز الملايين الخمسة ، نخره الفساد والمحسوبية ، عانى من البيروقراطية وتخلف النظام الإداري ، مكونات شعبه خليط غير متجانس ، تصدى لشأنه المؤسس ” لي كوان يو ” فحوله من بلد يسوده الفقر والكساد والفساد ، الى بلد انموذج للنهضة والعمران ، بل انموذجاً للبلد المتمدن ، وكانت شارعة ” لي كوان يو ” التصحيحية البدء بتصويب التعليم ، ثم اعتماد نظام الحوكمة الإلكترونية ، واختزال المراحل الإدارية في إنجاز المعاملات ، ثم الضرب بيد من حديد على اعناق كبار الفاسدين ، وتهيأت كل الظروف الآمنة للاستثمار ودعم القطاع الخاص ، فتحولت سنغافورة المهجورة الى سنغافورة الجاذبة ، وعلى هديها سارت كباريات المدنيات العربية ومن بينها الإمارات العربية المتحدة ، سنغافورة العرب ، أو إمارات العالم ، إذا أضحت الإمارات العربية المتحدة ، الدولة الأولى في العالم التي حولت كل معاملاتها الإدارية الى نظام الحكومة الإلكترونية . لقد مضى على التغيير في العراق ثمانية عشر سنة ، وهو زمن ليس طويل في عمر التغيير بلحاظ ما خلّف النظام الراحل من ويلات وخرابات وماسآسي، وهو ليس قليل في الوقت ذاته للشروع بالنهضة والبناء ، وترميم ما تصدع وبناء ما تهدم ، وتعويض ما فات ، لا سيما وأن تغيير جيلي طرأ على العراق اليوم ، إذا أصبحت الفئة العمرية التي ولدت بعد سنة 2003تشكل نسبة 10 بالمئة ? من مجموع الشعب العراقي ، وهي لم تعايش خوف النظام السابق ، ولم ترَ ويلاته ، ولم تكتوي بحروبه ، ولم تشاهد مقابره الجماعية ، ولم تعاصر معتقلاته ، ولم تتضجور جوعاً من شدة حصاراته ، وقائمة الويلات غير المشاهدة تطول ، لكن ذلك كله ليس مبرراً ، لهدر المال ، وسوء استخدام المنصب ، والعبث بمقدرات البلد ، وتهريب الاموال ، وتنصيب الفاشل ، وتمكين الفاسد . لقد آن الأوان لنهضة عراقية ، عنوانها العام محاربة الفساد ، وتمكين الكفؤ ، واعتماد الحوكمة ، وأتمتة نظام الدولة الإداري ، وتمكين القطاع الخاص ، ودعم الاستثمار ، وانجاز الأمن الغذائي ، وإعادة الحياة للزراعة ، وتمكين الصناعة ، وتحويل التجارة الى ثنائية الاتجاه تصديرية استيرادية ، وكل ذلك ممكن في المتناول ، وليس حلم بعيد المنال أو معجزة كما يظن البعض ، متى توافرت إرادة كاغامي ومهاتير محمد ولي كوان يو ، فالإرادة ونظافة اليد والوطنية والرغبة في التصحيح واعتماد الكفاءات ، مستلزمات متى توافرت تحققت النهضة ، وتقدم البلد ، وشُيدت المدنية .